صفحة جزء
[ ص: 3114 ] والاستواء هنا القصد. والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة. و " ثم " قد لا تكون للترتيب الزمني، ولكن للارتقاء المعنوي. والسماء في الحس أرفع وأرقى.

ثم استوى إلى السماء وهي دخان .. إن هناك اعتقادا أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم. وهذا السديم غاز.. دخان

" والسدم - من نيرة ومعتمة - ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم. إن نظرية الخلق تقول: إن المجرة كانت من غاز وغبار. ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم. وبقيت لها بقية. ومن هذه البقية كانت السدم. ولا يزال من هذه البقية منتشرا في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار، يساوي ما تكونت منه النجوم. ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها. فهي تكنس السماء منه كنسا. ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولا "

وهذا الكلام قد يكون صحيحا لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية: ثم استوى إلى السماء وهي دخان .. وإلى أن خلق السماوات تم في زمن طويل. في يومين من أيام الله.

ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة:

فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها. قالتا: أتينا طائعين ..

إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته. فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرها في أغلب الأحيان. إنه خاضع حتما لهذا الناموس، لا يملك أن يخرج عنه، وهو ترس صغير جدا في عجلة الكون الهائلة والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره. ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعا طاعة الأرض والسماء. إنما يحاول أن يتفلت، وينحرف عن المجرى الهين اللين; فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه - وقد تحطمه وتسحقه - فيستسلم خاضعا غير طائع. إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم.. تصطلح كلها مع النواميس الكلية، فتأتي طائعة، وتسير هينة لينة، مع عجلة الكون الهائلة، متجهة إلى ربها مع الموكب، متصلة بكل ما فيه من قوى،. وحينئذ تصنع الأعاجيب، وتأتي بالخوارق، لأنها مصطلحة مع الناموس، مستمدة من قوته الهائلة، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله طائعين ..

إننا نخضع كرها. فليتنا نخضع طوعا. ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء. في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين.

إننا نأتي أحيانا حركات مضحكة.. عجلة القدر تدور بطريقتها. وبسرعتها. ولوجهتها. وتدير الكون كله معها. وفق سنن ثابتة.. ونأتي نحن فنريد أن نسرع. أو أن نبطئ. نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل. نحن بما يطرؤ على نفوسنا - حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير - من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة.. ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض. ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم. ونصطدم هنا وهناك ونتحطم. والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها. وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى. فأما حين تؤمن قلوبنا حقا، وتستسلم لله حقا، وتتصل بروح الوجود حقا. فإننا - حينئذ - نعرف دورنا على حقيقته; وننسق بين [ ص: 3115 ] خطانا وخطوات القدر; ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة، في المدى المناسب. نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود. ونصنع أعمالا عظيمة فعلا، دون أن يدركنا الغرور. لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة. ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية، إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى.

ويا للرضى. ويا للسعادة. ويا للراحة. ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة، على هذا الكوكب الطائع الملبي، السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف..

ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق. كله مستسلم لربه، ونحن معه مستسلمون. لا تشذ خطانا عن خطاه، ولا يعادينا ولا نعاديه. لأننا منه. ولأننا معه في الاتجاه:

قالتا: أتينا طائعين .. فقضاهن سبع سماوات في يومين .. وأوحى في كل سماء أمرها ..

واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم. أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله. والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها، على هدى من الله وتوجيه; أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديدا. فقد تكون درجة البعد سماء. وقد تكون المجرة الواحدة سماء. وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات.. وقد يكون غير ذلك. مما تحتمله لفظة سماء وهو كثير.

وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ..

والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد. فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء. وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح.

وحفظا .. من الشياطين.. كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن.. ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئا مفصلا. أكثر من الإشارات السريعة في القرآن. فحسبنا هذا..

ذلك تقدير العزيز العليم ..

وهل يقدر هذا كله؟ ويمسك الوجود كله، ويدبر الوجود كله.. إلا العزيز القوي القادر؟ وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر؟

فكيف - بعد هذه الجولة الكونية الهائلة - يكون موقف الذين يكفرون بالله ويجعلون له أندادا؟ كيف. والسماء والأرض تقولان لربهما: أتينا طائعين وهذا النمل الصغير العاجز من البشر الذي يدب على الأرض يكفر بالله في تبجح واستهتار؟

وما يكون جزاء هذا التبجح وهذا الاستهتار؟

فإن أعرضوا فقل: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله. قالوا: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة، فإنا بما أرسلتم به كافرون. فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق، وقالوا: من أشد منا قوة؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟ وكانوا بآياتنا يجحدون. فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى، فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون. ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ..

[ ص: 3116 ] وهذا الإنذار المرهوب المخيف: فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود يناسب شناعة الجرم وقبح الذنب، وتبجح المشركين الذي حكي في مطلع السورة، وشذوذ كفار البشر من موكب الوجود الكبير الذي عرض قبل هذا الإنذار.

وقد روى ابن إسحاق قصة عن هذا الإنذار قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ - وذلك حين أسلم حمزة - رضي الله عنه - ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون - فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا بن أخي. إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمعمني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قل يا أبا الوليد أسمع " . قال: يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا; وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك; وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا; وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.. أو كما قال.. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه قال: " أفرغت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم. قال: " فاستمع مني " . قال: أفعل. قال: بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره، معتمدا عليهما، يستمع منه حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي.. خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.

وقد روى البغوي في تفسيره حديثا بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح - وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي (قال ابن كثير: وقد ضعف بعض الشيء) عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - إلى قوله: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عتبة على فيه. وناشده الرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم.. إلخ..

ثم لما حدثوه في هذا قال: " فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف. وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب. فخشيت أن ينزل بكم العذاب " ..

فهذه صورة من وقع هذا الإنذار من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قلب رجل لم يؤمن! ولا [ ص: 3117 ] نترك هذه الرواية قبل أن نقف وقفة قصيرة أمام صورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدب النفس الكبيرة وطمأنينة القلب المؤمن. وهو يستمع من عتبة إلى هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه، وقلبه مشغول بما هو أعظم، حتى لتبدو هذه الخواطر مقززة تثير الاشمئزاز: ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتلقاها حليما، ويستمع كريما، وهو مطمئن هادئ ودود. لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة. حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة: " أفرغت يا أبا الوليد؟ " فيقول: نعم. فيقول: - صلى الله عليه وسلم - " فاستمع مني " ولا يفاجئه بالقول حتى يقول: أفعل. وعندئذ يتلو - صلى الله عليه وسلم - في ثقة وفي طمأنينة وفي امتلاء روح قول ربه لا قوله: بسم الله الرحمن الرحيم. حم.. ..

إنها صورة تلقي في القلب المهابة. والثقة. والمودة. والاطمئنان.. ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه.. الذين قد يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقين!

صلى الله عليه وسلم.. وصدق الله العظيم: الله أعلم حيث يجعل رسالته ..

التالي السابق


الخدمات العلمية