صفحة جزء
وفي ختام السورة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى التي تدور عليها السورة. حقيقة الوحي والرسالة. يعود إلى هذه الحقيقة ليكشف عن طبيعة هذا الاتصال بين الله والمختارين من عباده، وفي أية صورة يكون. ويؤكد أنه قد وقع فعلا إلى الرسول الأخير - صلى الله عليه وسلم - لغاية يريدها الله سبحانه. ليهدي من يشاء إلى صراط مستقيم:

وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم. وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. ألا إلى الله تصير الأمور ..

ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: " من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية " إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث: " وحيا " يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله، أو من وراء حجاب .. كما كلم الله موسى - عليه السلام - وحين طلب الرؤية لم يجب إليها، ولم يطق تجلي الله على الجبل وخر موسى صعقا فلما أفاق قال: سبحانك [ ص: 3170 ] تبت إليك وأنا أول المؤمنين .. أو يرسل رسولا وهو الملك فيوحي بإذنه ما يشاء بالطرق التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

الأولى: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال - صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " .. والثانية:

أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل له الملك رجلا، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول. والثالثة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة لجرس، وكان أشده عليه، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها. والرابعة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم .

هذه صور الوحي وطرق الاتصال.. إنه علي حكيم .. يوحي من علو، ويوحي بحكمة إلى من يختار..

وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي.. كيف؟ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان المحيطة بكل شيء، والتي ليس كمثلها شيء. كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان، محدودة بحدود المخلوقات، من أبناء الفناء؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟

وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولاشكل له معهود؟

وكيف؟ وكيف؟ ..

ولكني أعود فأقول: وما لك تسأل عن كيف؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية؟! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة. وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود.

ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول! إن النبوة هذه أمر عظيم حقا. وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقا. تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية.. أخي الذي تقرأ هذه الكلمات، أأنت معي في هذا التصور؟! أأنت معي تحاول أن تتصور؟! هذا الوحي الصادر من هناك. أأقول: هناك؟! كلا. إنه ليس هناك " هناك " ! الصادر من غير مكان ولا زمان، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف. الصادر من المطلق النهائي، الأزلي الأبدي، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان.. إنسان مهما يكن نبيا رسولا، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود.. هذا الوحي. هذا الاتصال العجيب. المعجز. الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق.. أخي الذي تقرأ هذه الكلمات. هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله؟ إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته، والخارق في صورته، الذي حدث مرات ومرات. وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين، على عهد رسول الله - صلى الله [ ص: 3171 ] عليه وسلم. وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عائشة. هذا جبريل يقرئك السلام " قلت: وعليه السلام ورحمة الله. قالت: وهو يرى ما لا نرى " . وهذا زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذه، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه. وهؤلاء هم الصحابة - رضوان الله عليهم - في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه، فيعود إليهم ويعودون إليه..

ثم.. أية طبيعة. طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم؟ أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي، ويختلط بذلك العنصر، ويتسق مع طبيعته وفحواه؟

إنها هي الأخرى مسألة! إنها حقيقة. ولكنها تتراءى هنالك بعيدا على أفق عال ومرتقى صاعد، لا تكاد المدارك تتملاه.

روح هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - روح هذا الإنسان. كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي؟ كيف كانت تتفتح؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود; والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله؟

ثم.. أية رعاية؟ وأية رحمة؟ وأية مكرمة؟ .. والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان. فيوحي إليها لإصلاح أمرها، وإنارة طريقها، ورد شاردها.. وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض؟.

إنها حقيقة. ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعا إلى الأفق السامق الوضيء:

وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان. ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. ألا إلى الله تصير الأمور .

وكذلك . بمثل هذه الطريقة، وبمثل هذا الاتصال. أوحينا إليك .. فالوحي تم بالطريقة المعهودة.

ولم يكن أمرك بدعا. أوحينا إليك روحا من أمرنا .. فيه حياة، يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .. هكذا يصور نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم بها، قبل أن تتلقى هذا الوحي. وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكتاب وسمع عن الإيمان، وكان معروفا في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم، وأن لهم عقيد فليس هذا هو المقصود. إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير. وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله.

ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء .. وهذه طبيعته الخالصة. طبيعة هذا الوحي. هذا الروح. هذا الكتاب. إنه نور. نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به، بما يعلمه من حقيقتها، ومن مخالطة هذا النور لها.

[ ص: 3172 ] وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .. وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة، مسألة الهدى، بمشيئة الله سبحانه، وتجريدها من كل ملابسة، وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص، الذي لا يعرفه سواه; والرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة لتحقيق مشيئة الله، فهو لا ينشئ الهدى في القلوب; ولكن يبلغ الرسالة، فتقع مشيئة الله.

وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض .. فهي الهداية إلى طريق الله، الذي تلتقي عنده المسالك.لأنه الطريق إلى المالك، الذي له ما في السماوات وما في الأرض; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض، وقوى السماوات والأرض، ورزق السماوات والأرض، واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم. الذي إليه تتجه، والذي إليه تصير:

ألا إلى الله تصير الأمور ..

فكلها تنتهي إليه، وتلتقي عنده، وهو يقضي فيها بأمره.

وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه، ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين.

وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي. وكن الوحي محورها الرئيسي. وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى. لتقرر وحدة الدين، ووحدة المنهج، ووحدة الطريق. ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة. ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز، الذي تصلح به للقيادة، وتحمل به هذه الأمانة. الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم..

التالي السابق


الخدمات العلمية