صفحة جزء
فاستمسك بالذي أوحي إليك. إنك على صراط مستقيم ..

واثبت على ما أنت فيه، وسر في طريقك لا تحفل ما كان منهم وما يكون. سر في طريقك مطمئن القلب. إنك على صراط مستقيم .. لا يلتوي بك ولا ينحرف ولا يحيد.

وهذه العقيدة متصلة بحقيقة الكون الكبرى، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود. فهي [ ص: 3191 ] مستقيمة معه لا تنفرج عنه ولا تنفصل. وهي مؤدية بصاحبها إلى خالق هذا الوجود على استقامة تؤمن معها الرحلة في ذلك الطريق!

والله - سبحانه - يثبت رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتوكيد هذه الحقيقة. وفيها تثبيت كذلك للدعاة من بعده، مهما لاقوا من عنت الشاردين عن الطريق!

وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ..

ونص هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين:

أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة، فلا حجة بعد التذكير.

أو أن هذا القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك. وهذا ما حدث فعلا..

فأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن مئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربع مئة عام. ومئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة. وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية. وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به. فلما أن تخلوا عنه أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا; وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين!

وإنها لتبعة ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة، إذا هي تخلت عن الأمانة: وسوف تسألون ..

وهذا المدلول الأخير أوسع وأشمل. وأنا إليه أميل.

واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ ..

والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول. فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون؟

والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة.. صورة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسأل الرسل قبله عن هذه القضية: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول. وهي صورة طريفة حقا. وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب.

وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والرسل قبله. وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان.. ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة. حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد. وهي كفيلة أن تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة; ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين.. وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب..

على أنه بالقياس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شيء بعيد وآخر قريب. فهناك دائما تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار. حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود. تتجلى وحدة متصلة، وقد سقط عنها [ ص: 3192 ] حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة. وهنا يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويجاب، بلا حاجز ولا حجاب. كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج.

وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيرا بالمألوف في حياتنا. فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي. ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره، حين نهتدي إلى طرف من قانونه. وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات. فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شيء آخر أمرا أيسر من لمس الأجسام للأجسام!

وفي سياق تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره; واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا. تجيء حلقة من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان، وتساؤله في فخر وخيلاء: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟ .. وانتفاخه على موسى - عبد الله ورسوله - وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟ .. واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون: فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ..

وكأنما هي نسخة تكرر، أو اسطوانة تعاد!

ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة; على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى - عليه السلام - وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء.

ثم كيف كانت العاقبة بعد ما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ: فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ..

وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون!

ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة، ووحدة المنهج، ووحدة الطريق. كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض، وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون!

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فقال: إني رسول رب العالمين. فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ..

هنا يعرض حلقة اللقاء الأول بين موسى وفرعون، في إشارة مقتضبة تمهيدا لاستعراض النقطة الرئيسية المقصودة من القصة في هذا الموضع - وهي تشابه اعتراضات فرعون وقيمه مع اعتراضات مشركي العرب وقيمهم - ويلخص حقيقة رسالة موسى : فقال: إني رسول رب العالمين .. وهي ذات الحقيقة التي جاء بها كل رسول: أنه رسول وأن الذي أرسله هو رب العالمين ..

ويشير كذلك إشارة سريعة إلى الآيات التي عرضها موسى ، وينهي هذه الإشارة بطريقة استقبال القوم لها: إذا هم منها يضحكون .. شأن الجهال المتعالين!

[ ص: 3193 ] يلي ذلك إشارة إلى ما أخذ الله به فرعون وملأه من الابتلاءات المفصلة في سور أخرى:

وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها، وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون. وقالوا: يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون. فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ..

وهكذا لم تكن الآيات التي ظهرت على يدي موسى - عليه السلام - مدعاة إيمان، وهي تأخذهم متتابعة. كل آية أكبر من أختها؛ مما يصدق قول الله تعالى في مواضع كثيرة، وفحواه أن الخوارق لا تهدي قلبا لم يتأهل للهدى; وأن الرسول لا يسمع الصم ولا يهدي العمي!

والعجب هنا فيما يحكيه القرآن عن فرعون وملئه قولهم: يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون .. فهم أمام البلاء، وهم يستغيثون بموسى ليرفع عنهم البلاء. ومع ذلك يقولون له: يا أيها الساحر ويقولون كذلك: ادع لنا ربك بما عهد عندك وهو يقول لهم: إنه رسول رب العالمين لا ربه هو وحده على جهة الاختصاص! ولكن لا الخوارق ولا كلام الرسول مس قلوبهم، ولا خالطتها بشاشة الإيمان، على الرغم من قولهم: إننا لمهتدون :

فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ..

ولكن الجماهير قد تؤخذ بالخوارق المعجزة، وقد يجد الحق سبيلا إلى قلوبها المخدوعة. وهنا يبرز فرعون في جاهه وسلطانه، وفي زخرفه وزينته، يخلب عقول الجماهير الساذجة بمنطق سطحي، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان، المخدوعة بالأبهة والبريق:

ونادى فرعون في قومه: قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين، ولا يكاد يبين؟ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين؟ إن ملك مصر وهذه الأنهار التي تجري من تحت فرعون أمر قريب مشهود للجماهير، يبهرها وتستخفها الإشارة إليه. فأما ملك السماوات والأرض وما بينهما - ومصر لا تساوي هباءة فيه - فهو أمر يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحسه، وتعقد الموازنة بينه وبين ملك مصر الصغير الزهيد!

والجماهير المستعبدة المستغفلة يغريها البريق الخادع القريب من عيونها; ولا تسمو قلوبها ولا عقولها إلى تدبر ذلك الملك الكوني العريض البعيد!

ومن ثم عرف فرعون كيف يلعب بأوتار هذه القلوب ويستغفلها بالبريق القريب!

أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟ .

وهو يعني بالمهانة أن موسى ليس ملكا ولا أميرا ولا صاحب سطوة ومال مشهود. أم لعله يشير بهذا إلى أنه من ذلك الشعب المستعبد المهين. شعب إسرائيل. أما قوله: ولا يكاد يبين فهو استغلال لما كان معروفا عن موسى قبل خروجه من مصر من حبسة اللسان. وإلا فقد استجاب الله سؤاله حين دعاه: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .. وحلت عقدة لسانه فعلا، وعاد يبين.

وعند الجماهير الساذجة الغافلة لا بد أن يكون فرعون الذي له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته، خيرا من موسى - عليه السلام - ومعه كلمة الحق ومقام النبوة ودعوة النجاة من العذاب الأليم!

فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب؟ ..

هكذا. من ذلك العرض التافه الرخيص! أسورة من ذهب تصدق رسالة رسول! أسورة من ذهب تساوي [ ص: 3194 ] أكثر من الآيات المعجزة التي أيد الله بها رسوله الكريم! أم لعله كان يقصد من إلقاء أسورة الذهب تتويجه بالملك، إذ كانت هذه عادتهم، فيكون الرسول ذا ملك وذا سلطان؟

أو جاء معه الملائكة مقترنين ..

وهو اعتراض آخر له بريق خادع كذلك من جانب آخر، تؤخذ به الجماهير، وترى أنه اعتراض وجيه! وهو اعتراض مكرور، ووجه به أكثر من رسول!

فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين ..

واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه; فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها; ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!

ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول:

فاستخف قومه فأطاعوه. إنهم كانوا قوما فاسقين ..

ثم انتهت مرحلة الابتلاء والإنذار والتبصير; وعلم الله أن القوم لا يؤمنون; وعمت الفتنة فأطاعت الجماهير فرعون الطاغية المتباهي في خيلاء، وعشت عن الآيات البينات والنور; فحقت كلمة الله وتحقق النذير:

فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ..

يتحدث الله سبحانه عن نفسه في مقام الانتقام والتدمير; إظهارا لغضبه ولجبروته في هذا المقام فيقول: فلما آسفونا .. أي أغضبونا أشد الغضب.. انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين .. يعني فرعون وملأه وجنده. وهم الذين غرقوا على إثر موسى وقومه وجعلهم الله سلفا يتبعه كل خلف ظالم; ومثلا للآخرين الذين يجيئون بعدهم، ويعرفون قصتهم، فيعتبرون.

وهكذا تلتقي هذه الحلقة من قصة موسى - عليه السلام - بالحلقة المشابهة لها من قصة العرب في مواجهة رسولهم الكريم. فتثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه; وتحذر المشركين المعترضين، وتنذرهم مصيرا كمصير الأولين..

وتلتقي الحقيقة في عرض القصة، بالتناسق بين الحلقة المعروضة والحال القائمة والغاية من إيرادها في هذه الحال القائمة. وتصبح القصة بهذا أداة للتربية في المنهج الإلهي الحكيم.

ثم ينتقل السياق من هذه الحلقة في قصة موسى ، إلى حلقة من قصة عيسى، بمناسبة جدل القوم حول عبادتهم للملائكة وعبادة بعض أهل الكتاب للمسيح.. وذلك في الدرس الأخير.

التالي السابق


الخدمات العلمية