صفحة جزء
فإما منا بعد وإما فداء .. في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين. ومن ثم طبقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى منا. وفادى ببعضهم أسرى المسلمين، وفادى بعضهم بالمال. وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء.

فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي: فإما منا بعد وإما فداء لانقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق. فليس الاسترقاق حتميا، وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام.

وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم. ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث.. والله الموفق للصواب.

ويحسن أن يكون مفهوما أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده، لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرئ الإسلام منها! إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبدا، فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير، لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول: إنه يرى خيرا مما يرى الله. إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه.

وذلك.. - أي: القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى - حتى تضع الحرب أوزارها .. أي: حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له. فهي القاعدة الكلية الدائمة. ذلك أن "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" كما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تكون كلمة الله هي العليا.

والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر، ولا يفرض عليهم هذا الجهاد، لأنه يستعين بهم - حاشاه - على الذين كفروا. فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشرا; وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض; الابتلاء الذي تقدر به منازلهم:

[ ص: 3286 ] ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض. والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم ..

إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء. إن هؤلاء جميعا حفنة من الخلق. تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض، بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية والمجرات والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مداها إلا الله في هذا الفضاء الذي تبدو فيه هذه المجرات والعوالم نقطا متناثرة، تكاد تكون ضائعة، لا يمسكها ولا يجمعها ولا ينسقها إلا الله.

فلا يبلغ هؤلاء ومن وراءهم من الأتباع، بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلها، أن يكونوا نمالا صغيرة. لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات. لا بل إنهم لا يبلغون شيئا أصلا حين يقفون أمام قوة الله.

إنما يتخذ الله المؤمنين - حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم - إنما يتخذهم سبحانه ستارا لقدرته. ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة. كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم. بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير. وهو يبتليهم، ويربيهم، ويصلحهم، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار.

يريد ليبتليهم. وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات. فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتقتل وتقتل، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولا تستطيع الحياة بدونه، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.

ويريد ليربيهم. فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه. ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص، وينفي كل زغل ودخل، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد، والتطلع إلى وجه الله ورضاه. فترجح هذه وتشيل تلك. ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت، وأنها تربت فعرفت، وأنها لا تندفع بلا وعي، ولكنها تقدر وتختار.

ويريد ليصلحهم. ففي معاناة الجهاد في سبيل الله، والتعرض للموت في كل جولة، ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه. وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته. سواء سلم منه أو لاقاه. والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح.

ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها، عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها; وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله. ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه.. وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد. ويصبح عزيزا على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد; وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح، وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله!

ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب. وتيسير [ ص: 3287 ] الوسيلة لمن يريد الله بهم السوءى ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وعذابه. وكل ميسر لما خلق له. وفق ما يعلمه الله من سره ودخيلته.

ومن ثم يكشف عن مصير الذين يقتلون في سبيل الله:

والذين قتلوا في سبيل الله، فلن يضل أعمالهم. سيهديهم، ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم ..

لن يضل أعمالهم.. في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم. فهي أعمال مهتدية واصلة مربوطة إلى الحق الثابت الذي صدرت عنه، وانبعثت حماية له، واتجاها إليه. وهي باقية من ثم لأن الحق باق لا يهدر ولا يضيع.

ثم نقف أمام هذه الحقيقة الهائلة.. حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله.. فهي حقيقة مقررة من قبل في قوله تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون .. ولكنها تعرض هنا عرضا جديدا. تعرض في حالة امتداد ونماء في طريقها الذي غادرت الحياة الدنيا وهي تسلكه وتتوخاه. طريق الطاعة والهداية والتجرد والنقاء:

سيهديهم ويصلح بالهم ..

فالله ربهم الذي قتلوا في سبيله، يظل يتعهدهم بالهداية - بعد الاستشهاد - ويتعهدهم بإصلاح البال، وتصفية الروح من بقية أوشاب الأرض; أو يزيدها صفاء لتتناسق مع صفاء الملإ الأعلى الذي صعدت إليه، وإشراقه وسناه. فهي حياة مستمرة في طريقها لم تنقطع إلا فيما يرى أهل الأرض المحجوبون. وهي حياة يتعهدها الله ربها في الملإ الأعلى. ويزيدها هدى. ويزيدها صفاء، ويزيدها إشراقا. وهي حياة نامية في ظلال الله. وأخيرا يحقق لهم ما وعدهم:

ويدخلهم الجنة عرفها لهم ..

وقد ورد حديث عن تعريف الله الجنة للشهداء رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا زيد بن نمر الدمشقي، حدثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن كثير بن مرة، عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه، تكفر عنه كل خطيئة; ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان".. تفرد به أحمد. وقد روى حديثا آخر قريبا من هذا المعنى. وفيه النص على رؤية الشهيد لمقعده من الجنة. أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجة

فهذا تعريف الله الجنة للشهداء في سبيله. وهذه هي نهاية الهداية الممتدة، وإصلاح البال المستأنف بعد مغادرتهم لهذه الأرض. ونماء حياتهم وهداهم وصلاحهم هناك عند الله.

وفي ظل هذه الكرامة للذين قتلوا في سبيل الله. وفي ظل ذلك الرضى، وتلك الرعاية، وبلوغ ذلك المقام. يحرض الله المؤمنين على التجرد لله، والاتجاه إلى نصرة نهجه في الحياة; ويعدهم على هذا النصر والتثبيت في المعركة; والتعس والضلال لأعدائهم وأعدائه:

يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ..

[ ص: 3288 ] وكيف ينصر المؤمنون الله، حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت؟

إن لله في نفوسهم أن تتجرد له، وألا تشرك به شيئا، شركا ظاهرا أو خفيا، وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها، ونشاطها كله وخلجاتها.. فهذا نصر الله في ذوات النفوس.

وإن لله شريعة ومنهاجا للحياة، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة. ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء، فهذا نصر الله في واقع الحياة.

التالي السابق


الخدمات العلمية