صفحة جزء
والآن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس تفصيلا:

مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة. والله يضاعف لمن يشاء. والله واسع عليم ..

إن الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف; إنما يبدأ بالحض والتأليف.. إنه يستجيش المشاعر والانفعالات الحية في الكيان الإنساني كله.. إنه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة: صورة الزرع. هبة الأرض أو هبة الله. الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره. يعرض هذه الصورة الموحية مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله:

مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة ..

إن المعنى الذهني للتعبير ينتهي إلى عملية حسابية تضاعف الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة! أما المشهد الحي الذي يعرضه التعبير فهو أوسع من هذا وأجمل; وأكثر استجاشة للمشاعر، وتأثيرا في الضمائر.. إنه مشهد الحياة النامية. مشهد الطبيعة الحية. مشهد الزرعة الواهبة. ثم مشهد العجيبة في عالم النبات: العود الذي يحمل سبع سنابل. والسنبلة التي تحوي مائة حبة!.

وفي موكب الحياة النامية الواهبة يتجه بالضمير البشري إلى البذل والعطاء. إنه لا يعطي بل يأخذ; وإنه لا ينقص بل يزاد.. وتمضي موجة العطاء والنماء في طريقها. تضاعف المشاعر التي استجاشها مشهد الزرع والحصيلة.. إن الله يضاعف لمن يشاء . يضاعف بلا عدة ولا حساب. يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده; ومن رحمته التي لا يعرف أحد مداها:

والله واسع عليم .

واسع.. لا يضيق عطاؤه ولا يكف ولا ينضب. عليم.. يعلم بالنوايا ويثبت عليها، ولا تخفى عليه خافية.

ولكن أي إنفاق هذا الذي ينمو ويربو؟ وأي عطاء هذا الذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء؟

إنه الإنفاق الذي يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبها. الإنفاق الذي لا يؤذي كرامة ولا يخدش شعورا. الإنفاق الذي ينبعث عن أريحية ونقاء، ويتجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه:

الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..

والمن عنصر كريه لئيم ، وشعور خسيس واط. فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء [ ص: 307 ] الكاذب، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس. فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء..

وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن.. فالمن - من ثم - يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ سواء. أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء; ورغبة في رؤية أخيه ذليلا له كسيرا لديه; وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله.. وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام.. وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة، وملء البطن، وتلافي الحاجة..

كلا! إنما أراده تهذيبا وتزكية وتطهيرا لنفس المعطي; واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير في الله وفي الإنسانية; وتذكيرا له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها في سبيل الله في غير منع ولا من. كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ، وتوثيقا لصلته بأخيه في الله وفي الإنسانية; وسدا لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها. والمن يذهب بهذا كله، ويحيل الإنفاق سما ونارا. فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى آخر باليد أو باللسان. هو أذى في ذاته يمحق الإنفاق، ويمزق المجتمع، ويثير السخائم والأحقاد.

وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام!.

وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي; ويظل هذا الشعور يحز في نفسه; فيحاول الاستعلاء عليه بالتجهم لصاحب الفضل عليه وإضمار العداوة له; لأنه يشعر دائما بضعفه ونقصه تجاهه; ولأن المعطي يريد منه دائما أن يشعر بأنه صاحب الفضل عليه! وهو الشعور الذي يزيد من ألم صاحبه حتى يتحول إلى عداء!.

وقد يكون هذا كله صحيحا في المجتمعات الجاهلية - وهي المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام ولا يحكمها الإسلام - أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر. عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله ; وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله.. وهي الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الزرق البعيدة والقريبة، وكلها منحة من الله لا يقدر الإنسان منها على شيء. وحبة القمح الواحدة قد اشتركت في إيجادها قوى وطاقات كونية من الشمس إلى الأرض إلى الماء إلى الهواء. وكلها ليست في مقدور الإنسان.. وقس على حبة القمح نقطة الماء وخيط الكساء وسائر الأشياء.. فإذا أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى; وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافا كثيرة. وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسببا لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله! ثم شرع هذه الآداب التي نحن الآن بصددها، توكيدا لهذا المعنى في النفوس، حتى لا يستعلي معط ولا يتخاذل آخذ. فكلاهما آكل من رزق الله. وللمعطين أجرهم من الله إذا هم أعطوا من مال الله في سبيل الله متأدبين بالأدب الذي رسمه لهم، متقيدين بالعهد الذي عاهدهم عليه:

ولا خوف عليهم .

من فقر ولا من حقد ولا من غبن..

ولا هم يحزنون . [ ص: 308 ] على ما أنفقوا في الدنيا، ولا على مصيرهم في الآخرة.

وتوكيدا للمعنى الذي سلف من حكمة الإنفاق والبذل . توكيدا لأن الغرض هو تهذيب النفوس، وترضية القلوب، وربط الواهب والآخذ برباط الحب في الله.. يقول في الآية التالية:

قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى. والله غني حليم ..

فيقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها! وأولى منها كلمة طيبة وشعور سمح. كلمة طيبة تضمد جراح القلوب، وتفعمها بالرضى والبشاشة. ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة.

فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة : من تهذيب النفوس وتأليف القلوب.

ولأن الصدقة ليست تفضلا من المانح على الآخذ، إنما هي قرض لله.. عقب على هذا بقوله:

والله غني حليم ..

غني عن الصدقة المؤذية. حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون، فلا يعجلهم بالعقاب ولا يبادرهم بالإيذاء; وهو معطيهم كل شيء، ومعطيهم وجودهم ذاته قبل أن يعطيهم أي شيء - فليتعلم عباده من حلمه - سبحانه - فلا يعجلوا بالأذى والغضب على من يعطونهم جزاء مما أعطاه الله لهم. حين لا يروقهم منهم أمر، أولا ينالهم منهم شكر!.

وما يزال هذا القرآن يذكر الناس بصفة الله سبحانه ليتأدبوا منها بما يطيقون; وما يزال أدب المسلم تطلعا لصفة ربه، وارتقاء في مصاعدها، حتى ينال منها ما هو مقسوم له، مما تطيقه طبيعته.

وعندما يصل التأثر الوجداني غايته.. بعد استعراض مشهد الحياة النامية الواهبة مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، دون أن يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى، وبعد التلويح بأن الله غني عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة ، وأنه وهو الواهب الرازق لا يعجل بالغضب والأذى.. عندما يصل التأثر الوجداني غايته بهذا وذاك، يتوجه بالخطاب إلى الذين آمنوا ألا يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى. ويرسم لهم مشهدا عجيبا - أو مشهدين عجيبين يتسقان مع المشهد الأول. مشهد الزرع والنماء. ويصوران طبيعة الإنفاق الخالص لله ، والإنفاق المشوب بالمن والأذى. على طريقة التصوير الفني في القرآن، التي تعرض المعنى صورة، والأثر حركة، والحالة مشهدا شاخصا للخيال:

يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل، فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة. أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير ..

هذا هو المشهد الأول..

مشهد كامل مؤلف من منظرين متقابلين شكلا ووضعا وثمرة. وفي كل منظر جزئيات، يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض; ويتسق كذلك مع ما يمثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها.

نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد: [ ص: 309 ] كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ..

فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته. ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء.

هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله صفوان عليه تراب حجر لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان..

فأصابه وابل فتركه صلدا ..

وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته، ولم ينبت زرعه، ولم يثمر ثمرة..كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، فلم يثمر خيرا ولم يعقب مثوبة!.

أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد.. فقلب عامر بالإيمان، ندي ببشاشته. ينفق ماله ابتغاء مرضات الله ..

وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير.. وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب، فالقلب المؤمن تمثله جنة. جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان. جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب! ليكون المنظر متناسق الأشكال! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك. بل أحياها وأخصبها ونماها..

أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ..

أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء. وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو:

فإن لم يصبها وابل .. غزير.. فطل من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل! إنه المشهد الكامل، المتقابل المناظر، المنسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب..

ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر، جاء التعقيب لمسة للقلوب:

والله بما تعملون بصير ..

فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى، كيف يمحق آثار الصدقة محقا في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عونا، ولا يستطيع لذلك المحق ردا. تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء. كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء:

أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت؟ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ..

هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات: [ ص: 310 ] جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات ..

إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة.. وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها.. كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية. كذلك هي ذات روح وظل، وذات خير وبركة، وذات غذاء وري، وذات زكاة ونماء! فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة - أو هذه الحسنة - ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار؟

ومتى؟ في أشد ساعاته عجزا عن إنقاذها، وحاجة إلى ظلها ونعمائها!.

وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء. فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ..

من ذا الذي يود هذا؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه؟

كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ..

وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة; وما فيه من نضارة وروح وجمال. ثم بما يعصف به عصفا من إعصار فيه نار.. يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار!.

وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه..

هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى. بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها.. إنها جميعا تعرض في محيط متجانس. محيط زراعي! حبة أنبتت سبع سنابل. صفوان عليه تراب فأصابه وابل. جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين. جنة من نخيل وأعناب.. حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير.

وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير.. حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية. حقيقة الأصل الواحد، وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء. وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء.

إنه القرآن.. كلمة الحق الجميلة.. من لدن حكيم خبير..

التالي السابق


الخدمات العلمية