صفحة جزء
ويعلل حالهم هذه من شهادة مدخولة كاذبة، وأيمان مكذوبة خادعة، وصد عن سبيل الله وسوء عمل.. يعلله بأنهم كفروا بعد الإيمان، واختاروا الكفر بعد أن عرفوا الإسلام:

ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم، فهم لا يفقهون ..

فهم عرفوا الإيمان إذن، ولكنهم اختاروا العودة إلى الكفر. وما يعرف الإيمان ثم يعود إلى الكفر قلب فيه فقه، أو تذوق، أو حياة. وإلا فمن ذا الذي يذوق ويعرف، ويطلع على التصور الإيماني للوجود، وعلى التذوق الإيماني للحياة، ويتنفس في جو الإيمان الذكي، ويحيا في نور الإيمان الوضيء، ويتفيأ ظلال الإيمان الندية.. ثم يعود إلى الكفر الكالح الميت الخاوي المجدب الكنود؟ من ذا الذي يصنع هذا إلا المطموس الكنود الحقود، الذي لا يفقه ولا يحس ولا يشعر بهذا الفارق البعيد! فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ..

ثم يرسم لهم السياق صورة فريدة مبدعة; تثير السخرية والهزء والزراية بهذا الصنف الممسوخ المطموس من الناس، وتسمهم بالفراغ والخواء والانطماس والجبن والفزع والحقد والكنود. بل تنصبهم تمثالا وهدفا للسخرية في معرض الوجود:

وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم. وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة. يحسبون كل صيحة عليهم. هم العدو فاحذرهم. قاتلهم الله! أنى يؤفكون؟ ..

فهم أجسام تعجب. لا أناسي تتجاوب! وما داموا صامتين فهم أجسام معجبة للعيون.. فأما حين ينطقون فهم خواء من كل معنى ومن كل حس ومن كل خالجة.. تسمع لقولهم كأنهم خشب .. ولكنها ليست خشبا فحسب. إنما هي خشب مسندة .. لا حركة لها، ملطوعة بجانب الجدار!

هذا الجمود الراكد البارد يصورهم من ناحية فقه أرواحهم إن كانت لهم أرواح! ويقابله من ناحية أخرى حالة من التوجس الدائم والفزع الدائم والاهتزاز الدائم:

يحسبون كل صيحة عليهم ..

فهم يعرفون أنهم منافقون مستورون بستار رقيق من التظاهر والحلف والملق والالتواء. وهم يخشون في كل [ ص: 3575 ] لحظة أن يكون أمرهم قد افتضح وسترهم قد انكشف. والتعبير يرسمهم أبدا متلفتين حواليهم; يتوجسون من كل حركة ومن كل صوت ومن كل هاتف، يحسبونه يطلبهم، وقد عرف حقيقة أمرهم!!

وبينما هم خشب مسندة ملطوعة إذا كان الأمر أمر فقه وروح وشعور بإيقاعات الإيمان.. إذا هم كالقصبة المرتجفة في مهب الريح إذا كان الأمر أمر خوف على الأنفس والأموال!

وهم بهذا وذاك يمثلون العدو الأول للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين:

هم العدو فاحذرهم ..

هم العدو الحقيقي. العدو الكامن داخل المعسكر، المختبئ في الصف. وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح. فاحذرهم .. ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر هنا بقتلهم، فأخذهم بخطة أخرى فيها حكمة وسعة وثقة بالنجاة من كيدهم (كما سيجيء نموذج من هذه المعاملة بعد قليل)..

قاتلهم الله أنى يؤفكون ..

فالله مقاتلهم حيثما صرفوا وأنى توجهوا. والدعاء من الله حكم بمدلول هذا الدعاء، وقضاء نافذ لا راد له ولا معقب عليه.. وهذا هو الذي كان في نهاية المطاف.

ويستطرد السياق في وصف تصرفاتهم الدالة على دخل قلوبهم، وتبييتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذبهم عند المواجهة.. وهي مجموعة من الصفات اشتهر بها المنافقون:

وإذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون. سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، لن يغفر الله لهم، إن الله لا يهدي القوم الفاسقين. هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون. يقولون: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكن المنافقين لا يعلمون ..

وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول:

وفصل ابن إسحاق هذا في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست على المريسيع.. ماء لهم.. فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الماء - بعد الغزوة - وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون ابن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه. يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث. فقال: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم. فمشى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك عند فراغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب . فقال: [ ص: 3576 ] مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: - "كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذن بالرحيل". ذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها. فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه - فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان في قومه شريفا عظيما. فقال من حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. حدبا على ابن أبي بن سلول ودفعا عنه.

قال ابن إسحاق فلما استقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسار لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: - "أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟" قال: وأي صاحب يا رسول الله؟

قال " عبد الله بن أبي " قال: وما قال؟ قال: "زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل؟" قال: فأنت يا رسول الله والله لتخرجنه منها إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ارفق به. فو الله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا!

ثم مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس. ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله ابن أبي.


قال ابن إسحاق: ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين، في ابن أبي ومن كان على مثل أمره. فلما نزلت أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: "هذا الذي أوفى لله بأذنه".. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه.

قال ابن إسحاق. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه. فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا " .

وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: "كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته".. قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم بركة من أمري..


وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك! فقال: مالك؟ ويلك! فقال: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه العزيز وأنت الذليل! فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إنما يسير ساقة ، فشكا إليه [ ص: 3577 ] عبد الله بن أبي ابنه. فقال ابنه عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما إذ أذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجز الآن..

وننظر مرة إلى الأحداث، ومرة إلى الرجال، ومرة إلى النص القرآني، فنجدنا مع السيرة، ومع المنهج التربوي الإلهي، ومع قدر الله العجيب في تصريف الأمور..

فهذا هو الصف المسلم يندس فيه المنافقون; ويعيشون فيه - في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرابة عشر سنوات. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخرجهم من الصف، ولا يعرفهم الله له بأسمائهم وأعيانهم إلا قبيل وفاته. وإن كان يعرفهم في لحن القول، بالالتواء والمداورة. ويعرفهم بسيماهم وما يبدو فيها من آثار الانفعالات والانطباعات. ذلك كي لا يكل الله قلوب الناس للناس. فالقلوب له وحده، وهو الذي يعلم ما فيها ويحاسب عليه، فأما الناس فلهم ظاهر الأمر; كي لا يأخذوا الناس بالظنة، وكي لا يقضوا في أمورهم بالفراسة! وحتى حينما عرف الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالنفر الذين ظلوا على نفاقهم إلى أواخر حياته، فإنه لم يطردهم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام ويؤدون فرائضه. إنما عرفهم وعرف بهم واحدا فقط من رجاله هو حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - ولم يشع ذلك بين المسلمين. حتى إن عمر - رضي الله عنه - كان يأتي حذيفة ليطمئن منه على نفسه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسمه له من المنافقين! وكان حذيفة يقول له: يا عمر لست منهم. ولا يزيد! وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر ألا يصلي على أحد منهم مات أبدا. فكان أصحابه يعرفون عند ما يرون الرسول لا يصلي على ميت. فلما قبض - صلى الله عليه وسلم - كان حذيفة لا يصلي على من عرف أنه منهم. وكان عمر لا ينهض للصلاة على ميت حتى ينظر. فإن رأى حذيفة هناك علم أنه ليس من المجموعة وإلا لم يصل هو الآخر ولم يقل شيئا!

وهكذا كانت تجري الأحداث - كما يرسمها القدر - لحكمتها ولغايتها، للتربية والعبرة وبناء الأخلاق والنظم والآداب.

التالي السابق


الخدمات العلمية