صفحة جزء
وهذا الحادث الذي نزلت فيه تلك الآيات هو وحده موضع عبر وعظات جمة..

هذا عبد الله بن أبي بن سلول. يعيش بين المسلمين. قريبا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتوالى الأحداث والآيات من بين يديه ومن خلفه على حقيقة هذا الدين وصدق هذا الرسول. ولكن الله لا يهدي قلبه للإيمان، لأنه لم يكتب له هذه الرحمة وهذه النعمة. وتقف دونه ودون هذا الفيض المتدفق من النور والتأثير، تقف دونه إحنة في صدره أن لم يكن ملكا على الأوس والخزرج، بسبب مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام إلى المدينة! فتكفه هذه وحدها عن الهدى. الذي تواجهه دلائله من كل جانب. وهو يعيش في فيض الإسلام ومده في يثرب!

وهذا ابنه عبد الله - رضي الله عنه وأرضاه - نموذج رفيع للمسلم المتجرد الطائع. يشقى بأبيه ويضيق بأفاعيله ويخجل من مواقفه. ولكنه يكن له ما يكنه الولد البار العطوف. ويسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يقتل أباه هذا. فيختلج قلبه بعواطف ومشاعر متباينة، يواجهها هو في صراحة وفي قوة وفي نصاعة. إنه يحب الإسلام، ويحب طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحب أن ينفذ أمره ولو في أبيه. ولكنه [ ص: 3578 ] لا يطيق أن يتقدم أحد فيضرب عنق أبيه ويظل يمشي على الأرض بعده أمام ناظريه. وهو يخشى أن تخونه نفسه، وألا يقدر على مغالبة شيطان العصبية، وهتاف الثأر.. وهنا يلجأ إلى نبيه وقائده ليعينه على خلجات قلبه، ويرفع عنه هذا العنت الذي يلاقيه. فيطلب منه إن كان لا بد فاعلا أن يأمره هو بقتل أبيه. وهو لا بد مطيع. وهو يأتيه برأسه. كي لا يتولى ذلك غيره، فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض. فيقتله.

فيقتل مؤمنا بكافر. فيدخل النار..

وإنها لروعة تواجه القلب أينما اتجه وأينما قلب النظر في هذا الموقف الكريم. روعة الإيمان في قلب إنسان، وهو يعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكل إليه أشق عمل على النفس البشرية - أن يقتل أباه - وهو صادق النية فيما يعرض. يتقي به ما هو أكبر في نظره وأشق.. وهو أن تضطره نوازعه البشرية إلى قتل مؤمن بكافر، فيدخل النار.. وروعة الصدق والصراحة وهو يواجه ضعفه البشري تجاه أبيه وهو يقول: "فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني". وهو يطلب من نبيه وقائده أن يعينه على هذا الضعف ويخرجه من هذا الحرج; لا بأن يرد أمره أو يغيره - فالأمر مطاع والإشارة نافذة - ولكن بأن يكل إليه هو أن يأتيه برأسه!

والرسول الكريم يرى هذه النفس المؤمنة المحرجة، فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة: "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا".. ومن قبل هذا يكف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رأيه: "فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟".

ثم تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحادث تصرف القائد الملهم الحكيم.. وأمره بالسير في غير أوان، ومتابعة السير حتى الإعياء، ليصرف الناس عن العصبية المنتنة التي أثارها صياح الرجلين المتقاتلين: يا للأنصار! يا للمهاجرين! وليصرفهم كذلك عن الفتنة التي أطلقها المنافق عبد الله بن أبي بن سلول، وأرادها أن تحرق ما بين الأنصار والمهاجرين من مودة وإخاء فريدين في تاريخ العقائد وفي تاريخ الإنسان.. وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أسيد بن حضير، وما فيه من تعبئة روحية ضد الفتنة، واستجاشة للأخذ على يد صاحبها وهو صاحب المكانة في قومه حتى بعد الإسلام!

وأخيرا نقف أمام المشهد الرائع الأخير. مشهد الرجل المؤمن عبد الله بن عبد الله بن أبي. وهو يأخذ بسيفه مدخل المدينة على أبيه فلا يدعه يدخل. تصديقا لمقاله هو: "ليخرجن الأعز منها الأذل". ليعلم أن رسول الله هو الأعز. وأنه هو الأذل. ويظل يقفه حتى يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأذن له. فيدخلها بإذنه. ويتقرر بالتجربة الواقعة من هو الأعز ومن هو الأذل. في نفس الواقعة. وفي ذات الأوان.

ألا إنها لقمة سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال. رفعهم إلى هذه القمة، وهم بعد بشر، بهم ضعف البشر، وفيهم عواطف البشر، وخوالج البشر. وهذا هو أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة، حين يدركها الناس على حقيقتها، وحين يصبحون هم حقيقتها التي تدب على الأرض في صورة أناسي تأكل الطعام وتمشي في الأسواق.

ثم نعيش في ظلال النصوص القرآنية التي تضمنت تلك الأحداث:

وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون .. [ ص: 3579 ] فهم يفعلون الفعلة، ويطلقون القولة. فإذا عرفوا أنها بلغت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالأيمان يتخذونها جنة. فإذا قال لهم قائل: تعالوا يستغفر لكم رسول الله، وهم في أمن من مواجهته، لووا رؤوسهم ترفعا واستكبارا! وهذه وتلك سمتان متلازمتان في النفس المنافقة. وإن كان هذا التصرف يجيء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومقام. ولكنهم هم في ذوات أنفسهم أضعف من المواجهة; فهم يستكبرون ويصدون ويلوون رؤوسهم ما داموا في أمان من المواجهة. حتى إذا ووجهوا كان الجبن والتخاذل والأيمان!

ومن ثم يتوجه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قضاه الله في شأنهم على كل حال. وبعدم جدوى الاستغفار لهم بعد قضاء الله:

سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم. إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ..

ويحكي طرفا من فسقهم الذي استوجب قضاء الله فيهم:

هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ..

وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع، ولؤم النحيزة. وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان. ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين.

إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسلموه للمشركين!

وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه تحت وطأة الضيق والجوع!

وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين، ليموتوا جوعا أو يكفروا بالله، ويتركوا الصلاة!

وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام، بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق..

وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان، من قديم الزمان، إلى هذا الزمان.. ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية:

ولله خزائن السماوات والأرض. ولكن المنافقين لا يفقهون ..

ومن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم. فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين!

وهكذا يثبت الله المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخسيسة، التي يلجأ أعداء الله إليها في حربهم. ويطمئنهم إلى أن خزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع. والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه. فقد شاءت رحمته ألا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق. وقد علم أنهم لا يرزقون أنفسهم كثيرا ولا قليلا لو قطع عنهم الأرزاق! وهو أكرم أن يكل عباده - ولو كانوا أعداءه - إلى ما يعجزون عنه البتة. فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء!

[ ص: 3580 ] ثم قولتهم الأخيرة:

يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ..

وقد رأينا كيف حقق ذلك عبد الله بن أبي! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز!

ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكن المنافقين لا يعلمون ..

ويضم الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه، ويضفي عليهم من عزته، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله! وأي تكريم بعد أن يوقف الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره. ويقول: ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء. وهذا هو الصف العزيز!

وصدق الله. فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن. العزة المستمدة من عزته تعالى. العزة التي لا تهون ولا تهن، ولا تنحني ولا تلين. ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان. فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة..

ولكن المنافقين لا يعلمون ..

وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟

لهؤلاء المؤمنين الذين أوقفهم الله في صفه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل عزتهم من عزته يوجه النداء الأخير في السورة، ليرتفعوا إلى هذا المكان الكريم، ويبرأوا من كل صفة تشبه صفات المنافقين، ويختاروا ذلك المقام الأسنى على الأموال والأولاد، فلا يدعوها تلهيهم عن بلوغ ذلك المقام الوضيء:

يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله. ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين. ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، والله خبير بما تعملون ..

والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفا أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه، فأودع روحه الشوق إلى تحقيق بعض صفاته الإلهية في حدود طاقته البشرية. وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر الله والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان. ومن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر، ويلهه عن ذكر الله ليتم له هذا الاتصال فأولئك هم الخاسرون .. وأول ما يخسرونه هو هذه السمة. سمة الإنسان. فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنسانا. ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء. مهما يملك من مال ومن أولاد.

ويلمسهم في موضوع الإنفاق لمسات متنوعة في آية واحدة..

وأنفقوا من ما رزقناكم .. فيذكرهم بمصدر هذا الرزق الذي في أيديهم. فهو من عند الله الذي آمنوا به والذي يأمرهم بالإنفاق.

من قبل أن يأتي أحدكم الموت ... ..

فيترك كل شيء وراءه لغيره; وينظر فلا يجد أنه قدم شيئا لنفسه، وهذا أحمق الحمق وأخسر الخسران. ثم يرجو حينئذ ويتمنى أن لو كان قد أمهل ليتصدق وليكون من الصالحين!

وأنى له هذا؟: ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ؟

[ ص: 3581 ] وأنى له ما يتقدم به؟ والله خبير بما تعملون ؟

إنها اللمسات المنوعة في الآية الواحدة. في مكانها المناسب بعد عرض سمات المنافقين وكيدهم للمؤمنين. ولواذ المؤمنين بصف الله الذي يقيهم كيد المنافقين.. فما أجدرهم إذن أن ينهضوا بتكاليف الإيمان، وألا يغفلوا عن ذكر الله. وهو مصدر الأمان..

وهكذا يربي الله المسلمين بهذا القرآن الكريم..

التالي السابق


الخدمات العلمية