صفحة جزء
فأراه الآية الكبرى. فكذب وعصى ..

لقد بلغ موسى ما كلف تبليغه. بالأسلوب الذي لقنه ربه وعرفه. ولم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة القلب الطاغي الخاوي من معرفة ربه. فأراه موسى الآية الكبرى. آية العصا واليد البيضاء كما جاء في المواضع الأخرى: فكذب وعصى .. وانتهى مشهد اللقاء والتبليغ عند التكذيب والمعصية في اختصار وإجمال!

ثم يعرض مشهدا آخر. مشهد فرعون يتولى عن موسى، ويسعى في جمع السحرة للمباراة بين السحر والحق. حين عز عليه أن يستسلم للحق والهدى:

ثم أدبر يسعى. فحشر فنادى. فقال: أنا ربكم الأعلى ..

ويسارع السياق هنا إلى عرض قولة الطاغية الكافرة، مجملا مشاهد سعيه وحشره للسحرة وتفصيلاتها. فقد أدبر يسعى في الكيد والمحاولة، فحشر السحرة والجماهير; ثم انطلقت منه الكلمة الوقحة المتطاولة، المليئة بالغرور والجهالة: أنا ربكم الأعلى ..

قالها الطاغية مخدوعا بغفلة جماهيره، وإذعانها وانقيادها. فما يخدع الطغاة شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها. وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطانا. إنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد له أعناقها فيجر! وتحني له رؤوسها فيستعلي! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى!

والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى. وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم. فالطاغية - وهو فرد - لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها. وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئا! وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبدا. وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبدا. وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضرا ولا رشدا!

فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: أنا ربكم الأعلى .. وما كان ليقولها أبدا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء. وإن يسلبه الذباب شيئا لا يستنقذ من الذباب شيئا!

وأمام هذا التطاول الوقح، بعد الطغيان البشع، تحركت القوة الكبرى:

فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ..

ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى.. لأنه أشد وأبقى. فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصاة بشدته وبخلوده.. ولأنه الأنسب في هذا السياق الذي يتحدث عن الآخرة ويجعلها موضوعه الرئيسي.. ولأنه يتسق لفظيا مع الإيقاع الموسيقي في القافية بعد اتساقه معنويا مع الموضوع الرئيسي، ومع الحقيقة الأصيلة.

ونكال الأولى كان عنيفا قاسيا. فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى؟ وفرعون كان ذا قوة وسلطان [ ص: 3816 ] ومجد موروث عريق; فكيف بغيره من المكذبين؟ وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين؟

إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ..

فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه. أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز، وبينه وبين العظة حجاب. حتى يصطدم بالعاقبة اصطداما. وحتى يأخذه الله نكال الآخرة والأولى. وكل ميسر لنهج، وكل ميسر لعاقبة. والعبرة لمن يخشى..

ومن هذه الجولة في مصارع الطغاة المعتدين بقوتهم، يعود إلى المشركين المعتزين بقوتهم كذلك. فيردهم إلى شيء من مظاهر القوة الكبرى، في هذا الكون الذي لا تبلغ قوتهم بالقياس إليه شيئا:

أأنتم أشد خلقا أم السماء؟ بناها. رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعا لكم ولأنعامكم ..

وهو استفهام لا يحتمل إلا إجابة واحدة بالتسليم الذي لا يقبل الجدل: أأنتم أشد خلقا أم السماء؟ .. السماء! بلا جدال ولا كلام! فما الذي يغركم من قوتكم والسماء أشد خلقا منكم، والذي خلقها أشد منها؟ هذا جانب من إيحاء السؤال. وهناك جانب آخر. فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم؟ وهو خلق السماء وهي أشد من خلقكم; وبعثكم هو إعادة لخلقكم، والذي بنى السماء وهي أشد، قادر على إعادتكم وهي أيسر!

هذه السماء الأشد خلقا بلا مراء.. "بناها".. والبناء يوحي بالقوة والتماسك، والسماء كذلك. متماسكة. لا تختل ولا تتناثر نجومها وكواكبها. ولا تخرج من أفلاكها ومداراتها، ولا تتهاوى ولا تنهار. فهي بناء ثابت وطيد متماسك الأجزاء.

رفع سمكها فسواها .. وسمك كل شيء قامته وارتفاعه. والسماء مرفوعة في تناسق وتماسك. وهذه هي التسوية: "فسواها".. والنظرة المجردة والملاحظة العادية تشهد بهذا التناسق المطلق. والمعرفة بحقيقة القوانين التي تمسك بهذه الخلائق الهائلة وتنسق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها، توسع من معنى هذا التعبير، وتزيد في مساحة هذه الحقيقة الهائلة، التي لم يدرك الناس بعلومهم إلا أطرافا منها، وقفوا تجاهها مبهورين، تغمرهم الدهشة، وتأخذهم الروعة، ويعجزون عن تعليلها بغير افتراض قوة كبرى مدبرة مقدرة، ولو لم يكونوا من المؤمنين بدين من الأديان إطلاقا!

وأغطش ليلها وأخرج ضحاها .. وفي التعبير شدة في الجرس والمعنى، يناسب الحديث عن الشدة والقوة. وأغطش ليلها أي أظلمه. وأخرج ضحاها. أي: أضاءها. ولكن اختيار الألفاظ يتمشى في تناسق مع السياق.. وتوالي حالتي الظلام والضياء، في الليل والضحى الذي هو أول النهار، حقيقة يراها كل أحد; ويتأثر بها كل قلب. وقد ينساها بطول الألفة والتكرار، فيعيد القرآن جدتها بتوجيه المشاعر إليها. وهي جديدة أبدا. تتجدد كل يوم، ويتجدد الشعور بها والانفعال بوقعها. فأما النواميس التي وراءها فهي كذلك من الدقة والعظمة بحيث تروع وتدهش من يعرفها. فتظل هذه الحقيقة تروع القلوب وتدهشها كلما اتسع علمها وكبرت معرفتها!

والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها ..

ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها، بحيث تصبح صالحة للسير عليها، وتكوين تربة تصلح للإنبات، وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة. والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع، أو ما ينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر [ ص: 3817 ] ثم نزل في صورة مطر. وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة..

وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى. والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع. وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات.

والقرآن يعلن أن هذا كله كان: متاعا لكم ولأنعامكم .. فيذكر الناس بعظيم تدبير الله لهم من ناحية. كما يشير إلى عظمة تقدير الله في ملكه. فإن بناء السماء على هذا النحو، ودحو الأرض على هذا النحو أيضا لم يكونا فلتة ولا مصادفة. إنما كان محسوبا فيهما حساب هذا الخلق الذي سيستخلف في الأرض. والذي يقتضي وجوده ونموه ورقيه موافقات كثيرة جدا في تصميم الكون. وفي تصميم المجموعة الشمسية بصفة خاصة. وفي تصميم الأرض بصفة أخص.

والقرآن - على طريقته في الإشارة المجملة الموحية المتضمنة لأصل الحقيقة - يذكر هنا من هذه الموافقات بناء السماوات، وإغطاش الليل، وإخراج الضحى، ودحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها، وإرساء جبالها. متاعا للإنسان وأنعامه. وهي إشارة توحي بحقيقة التدبير والتقدير في بعض مظاهرها المكشوفة للجميع، الصالحة لأن يخاطب بها كل إنسان، في كل بيئة وفي كل زمان، فلا تحتاج إلى درجة من العلم والمعرفة، تزيد على نصيب الإنسان حيث كان. حتى يعم الخطاب بالقرآن لجميع بني الإنسان في جميع أطوار الإنسان، في جميع الأزمان.

ووراء هذا المستوى آماد وآفاق أخرى من هذه الحقيقة الكبرى. حقيقة التقدير والتدبير في تصميم هذا الكون الكبير. واستبعاد المصادفة والجزاف استبعادا تنطق به طبيعة هذا الكون، وطبيعة المصادفة التي يستحيل معها تجمع كل تلك الموافقات العجيبة.

هذه الموافقات التي تبدأ من كون المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها أرضنا هي تنظيم نادر بين مئات الملايين من المجموعات النجمية. وأن الأرض نمط فريد غير مكرر بين الكواكب بموقعها هذا في المنظومة الشمسية. الذي يجعلها صالحة للحياة الإنسانية. ولا يعرف البشر - حتى اليوم - كوكبا آخر تجتمع له هذه الموافقات الضرورية. وهي تعد بالآلاف!

"ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكواكب على حجم ملائم، وبعد معتدل، وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة".

"لا بد من الحجم الملائم، لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية".

"ولا بد من البعد المعتدل لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام، والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتخلخل فيه تلك الأجسام".

"ولا بد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة، لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء".

"وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوافر هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة، في الصورة التي [ ص: 3818 ] نعرفها، ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن".

وتقرير حقيقة التدبير والتقدير في تصميم هذا الكون الكبير، وحساب مكان للإنسان فيه ملحوظ في خلقه وتطويره أمر يعد القلب والعقل لتلقي حقيقة الآخرة وما فيها من حساب وجزاء باطمئنان وتسليم. فما يمكن أن يكون هذا هو واقع النشأة الكونية والنشأة الإنسانية ثم لا تتم تمامها، ولا تلقى جزاءها. ولا يكون معقولا أن ينتهي أمرها بنهاية الحياة القصيرة في هذه العاجلة الفانية. وأن يمضي الشر والطغيان والباطل ناجيا بما كان منه في هذه الأرض. وأن يمضي الخير والعدل والحق بما أصابه كذلك في هذه الأرض.. فهذا الفرض مخالف في طبيعته لطبيعة التقدير والتدبير الواضحة في تصميم الكون الكبير.. ومن ثم تلتقي هذه الحقيقة التي لمسها السياق في هذا المقطع بحقيقة الآخرة التي هي الموضوع الرئيسي في السورة. وتصلح تمهيدا لها في القلوب والعقول، يجيء بعده ذكر الطامة الكبرى في موضعه وفي حينه!

فإذا جاءت الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى. فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى ..

إن الحياة الدنيا متاع. متاع مقدر بدقة وإحكام. وفق تدبير يرتبط بالكون كله ونشأة الحياة والإنسان. ولكنه متاع. متاع ينتهي إلى أجله.. فإذا جاءت الطامة الكبرى غطت على كل شيء، وطمت على كل شيء. على المتاع الموقوت. وعلى الكون المتين المقدر المنظم. على السماء المبنية والأرض المدحوة والجبال المرساة والأحياء والحياة وعلى كل ما كان من مصارع ومواقع. فهي أكبر من هذا كله، وهي تطم وتعم على هذا كله!

عندئذ يتذكر الإنسان ما سعى. يتذكر سعيه ويستحضره، إن كانت أحداث الحياة، وشواغل المتاع أغفلته عنه وأنسته إياه. يتذكره ويستحضره ولكن حيث لا يفيده التذكر والاستحضار إلا الحسرة والأسى وتصور ما وراءه من العذاب والبلوى!

وبرزت الجحيم لمن يرى .. فهي بارزة مكشوفة لكل ذي نظر. ويشدد التعبير في اللفظ "برزت" تشديدا للمعنى والجرس، ودفعا بالمشهد إلى كل عين!

عندئذ تختلف المصائر والعواقب; وتتجلى غاية التدبير والتقدير في النشأة الأولى:

فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى ..

والطغيان هنا أشمل من معناه القريب. فهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى. ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت، حيث يشمل كل متجاوز للهدى، وكل من آثر الحياة الدنيا، واختارها على الآخرة. فعمل لها وحدها، غير حاسب للآخرة حسابا. واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره. فإذا أهمل حساب الآخرة أو آثر عليها الدنيا اختلت كل الموازين في يده، واختلت كل القيم في تقديره، واختلت كل قواعد الشعور والسلوك في حياته، وعد طاغيا وباغيا ومتجاوزا للمدى.

فأما هذا.. فإن الجحيم هي المأوى .. الجحيم المكشوفة المبرزة القريبة الحاضرة. يوم الطامة الكبرى!

وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى ..

والذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام [ ص: 3819 ] الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة. فظل في دائرة الطاعة.

ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة. فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية. وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى. فالجهل سهل علاجه. ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها.

والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة. وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى. ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة. فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها!

ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى. فهو - سبحانه - يعلم أن هذا خارج عن طاقته. ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها. وأن يستعين في هذا بالخوف. الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب. وكتب له بهذا الجهاد الشاق، الجنة مثابة ومأوى: فإن الجنة هي المأوى .. ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد; وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى.

إن الإنسان إنسان بهذا النهي، وبهذا الجهاد، وبهذا الارتفاع. وليس إنسانا بترك نفسه لهواها، وإطاعة جواذبه إلى دركها، بحجة أن هذا مركب في طبيعته. فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه، ونهي النفس عنه، ورفعها عن جاذبيته; وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى.

وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان. تلك هي حرية الانتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني. وهنالك حرية حيوانية، هي هزيمة الإنسان أمام هواه، وعبوديته لشهوته، وانفلات الزمام من إرادته. وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفا من الحرية!

إن الأول هو الذي ارتفع وارتقى وتهيأ للحياة الرفيعة الطليقة في جنة المأوى. أما الآخر فهو الذي ارتكس وانتكس وتهيأ للحياة في درك الجحيم حيث تهدر إنسانيته، ويرتد شيئا توقد به النار التي وقودها الناس - من هذا الصنف - والحجارة!

وهذه وتلك هي المصير الطبيعي للارتكاس والارتقاء في ميزان هذا الدين الذي يزن حقيقة الأشياء..

وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة هائلا عميقا مديدا:

يسألونك عن الساعة: أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاها. إنما أنت منذر من يخشاها. كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ..

وكان المتعنتون من المشركين يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلما سمعوا وصف أهوال الساعة وأحداثها وما تنتهي إليه من حساب وجزاء.. متى أو أيان موعدها.. أو كما يحكي عنهم هنا: أيان مرساها؟ ..

والجواب: فيم أنت من ذكراها؟ .. وهو جواب يوحي بعظمتها وضخامتها، بحيث يبدو هذا السؤال تافها باهتا، وتطفلا كذلك وتجاوزا. فها هو ذا يقال للرسول العظيم: فيم أنت من ذكراها؟ .. إنها لأعظم [ ص: 3820 ] من أن تسأل أو تسأل عن موعدها. فأمرها إلى ربك وهي من خاصة شأنه وليست من شأنك:

إلى ربك منتهاها .. فهو الذي ينتهي إليه أمرها، وهو الذي يعلم موعدها، وهو الذي يتولى كل شيء فيها. إنما أنت منذر من يخشاها .. هذه وظيفتك، وهذه حدودك.. أن تنذر بها من ينفعه الإنذار، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ويعمل لها، ويتوقعها في موعدها الموكول إلى صاحبها سبحانه وتعالى.

ثم يصور هولها وضخامتها في صنيعها بالمشاعر والتصورات وقياس الحياة الدنيا إليها في إحساس الناس وتقديرهم:

كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ..

فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا، وأعمارها، وأحداثها، ومتاعها، وأشياؤها، فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم.. عشية أو ضحاها!

وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون. والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة. والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان. والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها.. تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها.

هذه هي: قصيرة عاجلة، هزيلة ذاهبة، زهيدة تافهة.. أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة؟ ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى!

ألا إنها الحماقة الكبرى. الحماقة التي لا يرتكبها إنسان. يسمع ويرى!

التالي السابق


الخدمات العلمية