صفحة جزء
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة - أو الجماعة المسلمة - ذات الكيان الخاص، والرابطة المميزة، والوجهة الموحدة. الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها. والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل [ ص: 3968 ] الصالح; فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى.

فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة - أو الجماعة - المتضامة المتضامنة. الأمة الخيرة. الواعية. القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير.. وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة.. وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام.. هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن..

والتواصي بالحق ضرورة. فالنهوض بالحق عسير. والمعوقات عن الحق كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة. وطغيان الطغاة، وظلم الظلمة، وجور الجائرين.. والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة. فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معا فتتضاعف. تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله.. وهذا الدين - وهو الحق - لا يقوم إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال.

والتواصي بالصبر كذلك ضرورة. فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة. ولا بد من الصبر. لا بد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير. والصبر على الأذى والمشقة. والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر. والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبعد النهاية!

والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة المتجه، وتساند الجميع، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار.. إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها، ولا تبرز إلا من خلالها.. وإلا فهو الخسران والضياع.

وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران، فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء. يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا - قبل الآخرة - يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها; مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض.. هذا والمسلمون - أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق - هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير، وأشدهم إعراضا عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم، وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم، وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع. والبقاع التي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله، راية الإيمان، لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيرا قط في تاريخها كله. لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء. حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله، لا شريك له، المسماة باسم الله لا شريك له، الموسومة بميسم الله لا شريك له.. الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل..

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟".. عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله، وتحت عنوان "عهد القيادة الإسلامية": "الأئمة المسلمون وخصائصهم" :

"ظهر المسلمون، وتزعموا العالم، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها، [ ص: 3969 ] وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عادلا، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم".

"أولا: أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم. لأن ذلك منبع الجهل والخطإ والظلم، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء، وقد جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ".

"ثانيا: - أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر، بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشرافه الدقيق، يزكيهم ويؤدبهم، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله، وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها. يقول: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله، أو أحدا حرص عليه" .

ولا يزال يقرع سمعهم: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ..

فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب، فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة، ويزكوا أنفسهم، وينشروا دعاية لها، وينفقوا الأموال سعيا وراءها. فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد; بل عدوه أمانة في عنقهم، وامتحانا من الله; ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم، ومسؤولون عن الدقيق والجليل، وتذكروا دائما قول الله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .. وقوله.. وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات، ليبلوكم في ما آتاكم "..

"ثالثا: أنهم لم يكونوا خدمة جنس، ورسل شعب أو وطن، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاما، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم. ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده. كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد: الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .

فالأمم عندهم سواء، والناس عندهم سواء. الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم .

وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر - وقد ضرب ابنه مصريا وافتخر بآبائه قائلا: خذها من ابن الأكرمين. فاقتص منه عمر - : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا أمهاتهم ؟ فلم يبخل هؤلاء [ ص: 3970 ] بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها.

في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد، بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين..

"رابعا: إن الإنسان جسم وروح، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها، ويتغذى غذاء صالحا، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني. وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية، وأصحاب عقول سليمة راجحة، وعلوم صحيحة نافعة"..

إلى أن يقول تحت عنوان: "دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة":

"وكذلك كان، فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور - دور الخلافة الراشدة - فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل. وفي ظهور المدنية الصالحة.. كانت حكومة من أكبر حكومات العالم، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها، تسود فيها المثل الخلقية العليا، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة، فتقل الجنايات، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها، وتحسن علاقة الفرد بالفرد، والفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالفرد. وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه، ولم يفترض المفترضون أزهى منه.." .

هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع "سورة العصر" قواعده، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة. ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة. وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار. وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله. وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق. وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح! وراية الله ما تزال. وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح.

ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض. وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير. وهناك. هناك [ ص: 3971 ] الربح الحق والخسر الحق. هناك في الأمد الطويل، وفي الحياة الباقية، وفي عالم الحقيقة.. هناك الربح والخسر: ربح الجنة والرضوان، أو خسر الجنة والرضوان. هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له، أو يرتكس فتهدر آدميته، وينتهي إلى أن يكون حجرا في القيمة ودون الحجر في الراحة: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا ..

وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق.. إنه الخسر.. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .. طريق واحد لا يتعدد. طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة، التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر. وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر.

إنه طريق واحد. ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة "والعصر" ثم يسلم أحدهما على الآخر.. لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي، يتعاهدان على الإيمان والصلاح، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر. ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور. ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور..

التالي السابق


الخدمات العلمية