صفحة جزء
ثم وصف لهؤلاء العباد، يصور حال المتقين مع ربهم ، الحال التي استحقوا عليها هذا الرضوان:

الذين يقولون: ربنا إننا آمنا، فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين. والقانتين. [ ص: 376 ] والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ..

وفي دعائهم ما ينم عن تقواهم. فهو إعلان للإيمان، وشفاعة به عند الله، وطلب للغفران، وتوق من النيران.

وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة:

في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى ، وثبات على تكاليف الدعوة، وأداء لتكاليف الحق، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر، وقبول لحكمه ورضاء..

وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود ، وترفع عن الضعف; فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة.

وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية ; وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه.

وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال ; وانفلات من ربقة الشح وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس! والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالا رفافة ندية عميقة.. ولفظة بالأسحار بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر. الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة! فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء. وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان.

هؤلاء الصابرون، الصادقون، القانتون، المنفقون، المستغفرون بالأسحار.. لهم "رضوان من الله" ..

وهم أهل لهذا الرضوان: ظله الندي ومعناه الحاني. وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع..

وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض.. وشيئا فشيئا يرف بها في آفاق وأضواء، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة، وفي رفق ورحمة. وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها.

وفي مراعاة لضعفها وعجزها، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها، ودون ما كبت ولا إكراه. ودون ما وقف لجريان الحياة.. فطرة الله. ومنهج الله لهذه الفطرة.. والله بصير بالعباد ..

وإلى هنا كان سياق السورة يستهدف تقرير حقيقة التوحيد : توحيد الألوهية والقوامة، وتوحيد الكتاب والرسالة.. ويصور موقف المؤمنين حقا والمنحرفين الذين في قلوبهم زيغ، من آيات الله وكتابه.. ويهدد المنحرفين بمصير كمصير الذين كفروا في الماضي وفي الحاضر.. ثم يكشف عن الدوافع الفطرية التي تلهي عن الاعتبار ويصور حال المتقين مع ربهم والتجاءهم إلى الله..

التالي السابق


الخدمات العلمية