صفحة جزء
ثم يختم الأوامر والنواهي، والتحضيض والترغيب، بمشهد من مشاهد القيامة; يجسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة.. على طريقة القرآن في مشاهد القيامة:

فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ..

إنه يمهد لمشهد القيامة، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة.. وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعرة.. وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلا عنها أجرا من لدنه عظيما.. فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة; والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل، بالإيمان والعمل..

فأما هؤلاء. هؤلاء الذين لم يقدموا إيمانا، ولم يقدموا عملا.. هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل.. فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال، إذا جئنا من كل أمة بشهيد - هو نبيها الذي يشهد عليها - وجئنا بك على هؤلاء شهيدا؟.

وعندئذ يرتسم المشهد شاخصا.. ساحة العرض الواسعة. وكل أمة حاضرة. وعلى كل أمة شهيد بأعمالها.. وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون، الكاتمون لفضل الله، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله.. هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم للشهادة! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا. بكل ما كفروا وما أنكروا. بكل ما اختالوا وما افتخروا. بكل ما بخلوا وبخلوا. بكل ما راءوا وتظاهروا.. هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم. في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به. في مواجهة الرسول الذي عصوه.. فكيف؟؟؟

إنها المهانة والخزي، والخجل والندامة.. مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار..

والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر. إنما يرسم "صورة نفسية" تتضح بهذا كله; وترتسم حواليها تلك الظلال كلها. ظلال الخزي والمهانة، والخجل والندامة:

يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثا ! ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية، نحس بكل تلك المعاني، وبكل تلك الانفعالات، وهي تتحرك في هذه النفوس.. نحس بها عميقة حية مؤثرة. كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر.. وصفي أو تحليلي.. وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير .

وقد بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به.. والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة. وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها، وأحكام الطهارة الممهدة لها:

يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنبا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا. وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء، [ ص: 663 ] فتيمموا صعيدا طيبا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. إن الله كان عفوا غفورا ..

إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة - التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية - وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصيلة الشاملة; وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع. كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضا.. الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته; وللمجتمع الفارسي أيضا. وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته! والشأن أيضا كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى!

في السويد - وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة - كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها. وكان متوسط ما يستهلكه الفرد، حوالي عشرين لترا. وأحست الحكومة خطورة هذه الحال، وما ينشره من إدمان; فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور، وتحديد الاستهلاك الفردي، ومنع شرب الخمور في المحال العامة.. ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام. ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة، حتى منتصف الليل فقط! وبعد ذلك يباح شرب "النبيذ والبيرة" فحسب! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف..!

أما في أمريكا ، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانونا في سنة 1919 سمي قانون "الجفاف" ! من باب التهكم عليه، لأنه يمنع "الري" بالخمر! وقد ظل هذا القانون قائما مدة أربعة عشر عاما، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933. وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر. ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات. وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة. وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيه. وقد أعدم فيها 300 نفس; وسجن كذلك 335، 532 نفسا. وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه. وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه.. وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون .

فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي.. ببضع آيات من القرآن.

وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية، وفي علاج المجتمع الإنساني.. بين منهج الله، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء!

ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي; حيث نجد "الخمر" عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها.

لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر، أن أصبحت كلمة التجارة، مرادفة لبيع الخمر.. يقول لبيد :

قد بت سامرها وغاية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها

ويقول عمرو بن قميئة :

إذ أسحب الريط والمروط إلى     أدنى تجاري وأنفض اللمما

ووصف مجالس الشراب، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي، وتطبعه طابعا ظاهرا.

[ ص: 664 ] يقول امرؤ القيس :


وأصبحت ودعت الصبا غير أنني     أراقب خلات من العيش أربعا
فمنهن قولي للندامى: ترفقوا     يداجون نشاجا من الخمر مترعا
ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا     يبادرن سربا آمنا أن يفزعا

... إلخ

ويقول طرفة بن العبد :


فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى     وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة     كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وما زال تشرابي الخمور ولذتي     وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها     وأفردت إفراد البعير المعبد

ويقول الأعشى :


فقد أشرب الراح قد تعلمين     يوم المقام ويوم الظعن
وأشرب بالريف حتى يقال     قد طال بالريف ما قد دجن

ويقول المنخل اليشكري :


ولقد شربت من المدا     مة بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني     رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني     رب الشويهة والبعير

وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي ...

ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم ، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث.. وفيهم عمر ، وعلي ، وحمزة ، وعبد الرحمن بن عوف .. وأمثال هذا الطراز من الرجال.. تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية. وتكفي عن الوصف المطول المفصل:

يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه في رواية: "كنت صاحب خمر في الجاهلية. فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب ...

وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام. حتى إذا نزلت آية: يسألونك عن الخمر والميسر. قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما .. قال: "اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر" .. واستمر..

حتى إذا نزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ..

قال: اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون .. قال: انتهينا انتهينا! وانتهى ..

وفي سبب نزول هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ترد روايتان يشترك [ ص: 665 ] في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين . وسعد بن معاذ من الأنصار .

روى ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - بإسناده - عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: "نزلت في أربع آيات. صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار . فأكلنا وشربنا، حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحي بعير (عظم الفك) فغرز بها أنف سعد . فكان سعد مغروز الأنف. وذلك قبل تحريم الخمر. فنزلت يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى .. والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة .

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي أبو جعفر . عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموا فلانا قال: فقرأ: "قل يا أيها الكافرون. ما أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون"! فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون .

ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات; لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي. فهي كانت والميسر، الظاهرتين البارزتين; المتداخلتين، في تقاليد هذا المجتمع..

فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبدا؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية; كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟

لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن; وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة. وكسب المعركة. دون حرب. ودون تضحيات. ودون إراقة دماء.. والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين - حين سمعوا آية التحريم - فمجوها من أفواههم. ولم يبلعوها. كما سيجيء!

في مكة - حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان.. إلا سلطان القرآن - وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر. تدرك من ثنايا العبارة. وهي مجرد إشارة:

جاء في سورة النحل: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا .. فوضع "السكر" وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب، في مقابل الرزق الحسن! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء. والرزق "الحسن" شيء آخر.. وكانت مجرد لمسة من بعيد; للضمير المسلم الوليد!

ولكن عادة الشراب، أو تقليد الشراب - بمعنى أدق - فقد كان أعمق من عادة فردية. كان تقليدا اجتماعيا، له جذور اقتصادية.. كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة..

وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان.. لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان. إنما كان أولا سلطان القرآن..

وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية..

بدأ بآية البقرة ردا على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ ص: 666 ] وكانت هي الطرقة الأولى، ذات الصوت المسموع.. في الحس الإسلامي، وفي الضمير الإسلامي. وفي المنطق الفقهي الإسلامي.. فمدار الحل والحرمة.. أو الكراهية.. على رجحان الإثم أو رجحان الخير، في أمر من الأمور.. وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما.. فهذا مفرق الطريق..

ولكن الأمر كان أعمق من هذا.. وقال عمر - رضي الله عنه - : "اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر" ..

عمر !!! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي!

ثم حدثت أحداث - كالتي رويناها - ونزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون ..

وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل..

لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة، بين التنفير من الخمر، لأن إثمها أكبر من نفعها، وبين التحريم البات، لأنها رجس من عمل الشيطان. وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة: هي "قطع عادة الشراب" أو "كسر الإدمان" .. وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة. وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار. وبينها فترات لا تكفي للشراب - الذي يرضي المدمنين - ثم الإفاقة من السكر الغليظ! حتى يعلموا ما يقولون! فضلا على أن للشراب كذلك أوقاتا ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق.. صباحا ومساء.. وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة.. وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب.. وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة..

ومع ذلك.. فقد قال عمر رضي الله عنه - وهو عمر !!! - : اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر .. ثم مضى الزمن. ووقعت الأحداث. وجاء الوعد المناسب - وفق ترتيب المنهج - للضربة الحاسمة. فنزلت الآيتان في المائدة: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون ..

وانتهى المسلمون كافة. وأريقت زقاق الخمر، وكسرت دنانها في كل مكان.. بمجرد سماع الأمر.. ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم. وهم شاربون..

لقد انتصر القرآن. وأفلح المنهج. وفرض سلطانه دون أن يستخدم السلطان!!!

ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة، التي لا نظير لها في تاريخ البشر; ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان، ولا في أي زمان؟

لقد تمت المعجزة، لأن المنهج الرباني، أخذ النفس الإنسانية، بطريقته الخاصة.. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله - سبحانه - فيها حضورا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان.. أخذها جملة لا تفاريق.. وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة..

لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغا تملؤه بنشوة الخمر، وخيالات السكر، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء.. في الهواء..

ملأ فراغها باهتمامات. منها: نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها، من تيه الجاهلية الأجرد، وهجيرها [ ص: 667 ] المتلظي، وظلامها الدامس، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق، إلى رياض الإسلام البديعة، وظلاله الندية، ونوره الوضيء، وحريته الكريمة، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة!

وملأ فراغها - وهذا هو الأهم - بالإيمان. بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج. فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء.. وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله.. وتذوق طعم هذا القرب، فتمج طعم الخمر ونشوتها; وترفض خمارها وصداعها وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية!

إنه استنقذ الفطرة من ركام الجاهلية; وفتحها بمفتاحها، الذي لا تفتح بغيره; وتمشى في حناياها وأوصالها; وفي مسالكها ودروبها.. ينشر النور، والحياة، والنظافة، والطهر، واليقظة، والهمة، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير، والخلافة في الأرض، على أصولها، التي قررها العليم الخبير، وعلى عهد الله وشرطه، وعلى هدى ونور..

إن الخمر كالميسر - كبقية الملاهي. كالجنون بما يسمونه "الألعاب الرياضية" والإسراف في الاهتمام بمشاهدها.. كالجنون بالسرعة.. كالجنون بالسينما.. كالجنون "بالمودات" و"التقاليع" .. كالجنون بمصارعة الثيران.. كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم، جاهلية الحضارة الصناعية!

إن هذه كلها ليست إلا تعبيرا عن الخواء الروحي.. من الإيمان أولا.. ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانيا.. وليست إلا إعلانا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية.. ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا.. وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى "الجنون" المعروف، وإلى المرض النفسي والعصبي.. وإلى الشذوذ..

إنها لم تكن كلمات.. هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة.. إنما كان منهج. منهج هذه الكلمات متنه وأصله. منهج من صنع رب الناس. لا من صنع الناس! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج، لا تؤدي إلى كثير!

إنه ليست المسألة أن يقال كلام! فالكلام كثير. وقد يكتب فلان من الفلاسفة. أو فلان من الشعراء. أو فلان من المفكرين. أو فلان من السلاطين! قد يكتب كلاما منمقا جميلا يبدو أنه يؤلف منهجا، أو مذهبا، أو فلسفة.. إلخ.. ولكن ضمائر الناس تتلقاه، بلا سلطان. لأنه ما أنزل الله بها من سلطان ! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان.. وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور!

فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج، غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟ متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟؟؟

ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة: [ ص: 668 ] يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - حتى تعلموا ما تقولون - ولا جنبا - إلا عابري سبيل - حتى تغتسلوا ...

كما منعت الآية - الذين آمنوا - أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، حتى يعلموا ما يقولون كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب - إلا عابري سبيل - حتى يغتسلوا..

وتختلف الأقوال في المقصود من عابري سبيل كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه.. فقول: إن المقصود هو عدم قرب المساجد، أو المكث فيها، لمن كان جنبا، حتى يغتسل. إلا أن يكون عابرا بالمسجد مجرد عبور. وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت. فرخص لهم في المرور - وهم جنب - لا بالمكث في المسجد - ولا الصلاة بطبيعة الحال - إلا بعد الاغتسال.

وقول: إن المقصود هو الصلاة ذاتها. والنهي عن أدائها للجنب - إلا بعد الاغتسال - ما لم يكن مسافرا. فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي - بلا اغتسال - ولكن بالتيمم. الذي يسد مسد الغسل - عندئذ - كما يسد مسد الوضوء..

والقول الأول يبدو أظهر وأوجه. لأن الحالة الثانية - حالة السفر - ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك. فتفسير عابري سبيل بالمسافرين، ينشئ تكرارا للحكم في الآية الواحدة، لا ضرورة له:

وإن كنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء - فلم تجدوا ماء - فتيمموا صعيدا طيبا. فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. إن الله كان عفوا غفورا ..

فهذا النص يشمل حالة المسافر عندما يصيبه حدث أكبر فيكون جنبا في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر، فيكون في حاجة إلى الوضوء، لأداء الصلاة.

والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضا، فألم به حدث أكبر أو أصغر . أو بمن جاء من الغائط (والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل) فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء. أو بمن لامس النساء..

وفي لامستم النساء .. أقوال كذلك:

قول: إنه كناية عن الجماع.. فهو يستوجب الغسل.

وقول: إنه يعني حقيقة اللمس.. لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة.. وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب، ولا يستوجبه في بعضها. بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالا:

"أ" اللمس يوجب الوضوء إطلاقا .

"ب" اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس. وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس.

"ج" اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه - حسب تقديره في كل حالة - أن اللمسة أثارت في نفسه حركة.

"د" اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقا، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة.. [ ص: 669 ] ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم.. على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع.

والذي نرجحه في معنى أو لامستم النساء أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل. وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء..

وفي جميع هذه الحالات المذكورة، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة.. حين لا يوجد الماء - وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضارا أو غير مقدور عليه - يغني عن الغسل والوضوء: التيمم. وقد جاء اسمه من نص الآية.

فتيمموا صعيدا طيبا ..

أي: فاقصدوا صعيدا طيبا.. طاهرا.. والصعيد: كل ما كان من جنس الأرض من تراب. أو حجر. أو حائط. ولو كان التراب مما على ظهر الدابة. أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير. متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به.

وطريقة التيمم: إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الظاهر. ثم نفضهما. ثم مسح الوجه. ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما.. وإما خبطتان: خبطة يمسح بها الوجه، وخبطة يمسح بها الذراعان.. ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا.. فهذا الدين يسر، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحا:

إن الله كان عفوا غفورا ..

وهو التعقيب الموحي بالتيسير. وبالعطف على الضعف، وبالمسامحة في القصور. والمغفرة في التقصير..

وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس.. نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة:

نقف أمام "حكمة التيمم" . نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها..

إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية، يندفعون أحيانا في تعليل هذه الأحكام ; بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة; فلم يعد وراء ما استقصوه شيء! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية.. ما لم يكن قد نص على حكمتها نصا.. وأولى: أن نقول دائما: إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم. وأنه قد تكون دائما هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها! وبذلك نضع عقلنا البشري - في مكانه - أمام النصوص والأحكام الإلهية. بدون إفراط ولا تفريط..

أقول هذا، لأن بعضنا - ومنهم المخلصون - يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس، ومعها حكمة محددة، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه "العلم الحديث" ! وهذا حسن - ولكن في حدود - هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة.

وكثيرا ما ذكر عن حكمة الوضوء - قبل الصلاة - أنها النظافة..

وقد يكون هذا المعنى مقصودا في الوضوء. ولكن الجزم بأنه هو.. وهو دون غيره.. هو المنهج غير السليم. وغير المأمون أيضا:

فقد جاء وقت قال بعض المماحكين: لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية: فالنظافة الآن موفورة. والناس [ ص: 670 ] يجعلونها في برنامج حياتهم اليومي. فإذا كانت هذه هي "حكمة الوضوء" فلا داعي للوضوء إذن للصلاة! بل.. لا داعي للصلاة أيضا!!

وكثيرا ما ذكر عن "حكمة الصلاة" ... تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام: أولا في مواقيتها. وثانيا في حركاتها. وثالثا في نظام الصفوف والإمامة ... إلخ. وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة.. وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصودا.. ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك أو ذلك هو "حكمة الصلاة" يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون.

وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه: إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية. فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فنا من الفنون! وقال بعضهم: ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام. فعندنا الجندية مجال النظام الأكبر. وفيها غناء! وقال بعضهم: لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة. فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيدا عن حركات الجوارح، التي قد تعطل الاستشراف الروحي!

وهكذا.. إذا رحنا "نحدد" حكمة كل عبادة. وحكمة كل حكم. ونعلله تعليلا وفق "العقل البشري" أو وفق "العلم الحديث" ثم نجزم بأن هذا هو المقصود.. فإننا نبعد كثيرا عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه. كما نبعد كذلك عن الحد المأمون. ونفتح الباب دائما للمماحكات. فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم. وبخاصة حين نربطها بالعلم. والعلم قلب لا يثبت على حال. وهو كل يوم في تصحيح وتعديل!

وهنا في موضوعنا الحاضر - موضوع التيمم - يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل، ليست هي "مجرد" النظافة. وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما، لا يحقق هذه "الحكمة" ! فلا بد إذن من حكمة "أخرى" للوضوء أو الغسل. تكون متحققة كذلك في "التيمم" ..

ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم! ولكننا نقول فقط: إنها - ربما - كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله، بعمل ما، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية، وبين اللقاء العظيم الكريم.. ومن ثم يقوم التيمم - في هذا الجانب - مكان الغسل أو مكان الوضوء..

ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف; بدخائل النفوس، ومنحنياتها ودروبها، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.. ويبقى أن نتعلم نحن شيئا من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير..

ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة; وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات. وتذليل هذه المعوقات. والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء، ومحل الغسل، أو محلهما معا، عند تعذر وجود الماء; أو عند التضرر بالماء (أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة) وكذلك عند السفر (حتى مع وجود الماء في أقوال) ..

إن هذا كله يدل - بالإضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف في ميدان القتال - على حرص شديد من المنهج الرباني، على الصلاة.. بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب (ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدى الصلاة من قعود، أو من اضطجاع، أو من نوم. وتؤدى بحركات من جفني العين عندما يشق تحريك الجسم والأطراف!)

إنها هذه الصلة بين العبد والرب. الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها. لأنه - سبحانه - يعلم ضرورتها لهذا العبد. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولا يناله من عبادة العباد شيء. إلا صلاحهم هم. وإلا [ ص: 671 ] ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله، من العون على تكاليفهم، والاسترواح لقلوبهم، والاطمئنان لأرواحهم. والإشراق في كيانهم; والشعور بأنهم في كنف الله، وقربه، ورعايته، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم.. والله أعلم بفطرتهم هذه، وبما يصلح لها وما يصلحها.. وهو أعلم بمن خلق. وهو اللطيف الخبير.

ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير:

ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله: أو جاء أحد منكم من الغائط .. فلا يقول: إذا عملتم كذا وكذا.. بل يكتفي بالعودة من هذا المكان، كناية عما تم فيه! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين. فلا يقول: أو جئتم من الغائط. بل يقول: أو جاء أحد منكم من الغائط زيادة في أدب الخطاب، ولطف الكناية. ليكون هذا الأدب نموذجا للبشر حين يتخاطبون!

وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله: أو لامستم النساء والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى - والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيرا عنه - وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس، في الحديث عن مثل هذه الشؤون. عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف.

وحين يعبر عن الصعيد الطاهر، بأنه الصعيد الطيب. ليشير إلى أن الطاهر طيب. وأن النجس خبيث.. وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس..

وسبحان خالق النفوس. العليم بهذه النفوس!

التالي السابق


الخدمات العلمية