صفحة جزء
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى. أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم. ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ..

والصورة التي يرسمها هذا النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي، لم تألف نفوسهم النظام; ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر; وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة; لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث; ولم يدركوا جدية الموقف; وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال; وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال! أو - ربما - لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر; وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها، حين يتلقاها لسان عن لسان. سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف.. فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة! فإن إشاعة أمر الأمن مثلا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو.. إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي - مهما تكن الأوامر باليقظة - [ ص: 724 ] لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية! .. كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة. وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكا، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف.. وقد تكون كذلك القاضية!

وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه; أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته. أو هما معا.. ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك; باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان، ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء ... وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني.

والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم .

أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة; واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة.

فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن - بشرط الإيمان ذاك وحده - حين يبلغ إلى أذنيه خبر، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره. لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه; أو بين من لا شأن لهم به. لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر - حتى بعد ثبوته - أو عدم إذاعته..

وهكذا كان القرآن يربي.. فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة; ويعلم نظام الجندية في آية واحدة.. بل بعض آية.. فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف، فيحمله ويجري متنقلا، مذيعا له، من غير تثبت، ومن غير تمحيص، ومن غير رجعة إلى القيادة.. ووسطها يعلم ذلك التعليم.. وآخرها يربط القلوب بالله في هذا، ويذكرها بفضله، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد; الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ..

آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها; وتتناول القضية من أطرافها; وتتعمق السريرة والضمير; وهي تضع التوجيه والتعليم!!! ذلك أنه من عند الله.. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ..

وحين يصل السياق إلى هذا الحد من تقويم عيوب الصف; التي تؤثر في موقفه في الجهاد وفي الحياة - ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب - عندئذ ينتهي إلى قمة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس. قمة التكليف الشخصي، الذي لا يقعد الفرد عنه تبطئة ولا تخذيل، ولا خلل في الصف، ولا وعورة في الطريق. حيث يوجه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقاتل - ولو كان وحيدا - فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه - صلى الله عليه وسلم - وفي الوقت ذاته يحرض المؤمنين على القتال.. وكذلك يوحي إلى النفوس بالطمأنينة ورجاء النصر: فالله هو الذي يتولى المعركة. والله أشد بأسا وأشد تنكيلا: فقاتل في سبيل الله - لا تكلف إلا نفسك - وحرض المؤمنين. عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. والله أشد بأسا وأشد تنكيلا .. [ ص: 725 ] ومن خلال هذه الآية - بالإضافة إلى ما قبلها - تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك. كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين:

"أ" يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم; وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه; حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة، هي تكليف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل في سبيل الله - ولو كان وحده - ليس عليه إلا نفسه; مع تحريض المؤمنين. غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم! ولو أن عدم استجابتهم - جملة - أمر لا يكون. ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو; واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة. فوق ما يحمله النص - طبعا - من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي. وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه..

"ب" كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرض لقتال المشركين يومذاك.. حتى ليكون أقصى ما يعلق الله به رجاء المؤمنين: أن يتولى هو سبحانه كف بأس الذين كفروا; فيكون المسلمون ستارا لقدرته في كف بأسهم عن المسلمين.. مع إبراز قوة الله - سبحانه - وأنه أشد بأسا وأشد تنكيلا.. وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوة بأس الذين كفروا يومذاك; والمخاوف المبثوثة في الصف المسلم.. وربما كان هذا بين أحد والخندق . فهذه أحرج الأوقات التي مرت بها الجماعة المسلمة في المدينة ; بين المنافقين، وكيد اليهود ، وتحفز المشركين! وعدم اكتمال التصور الإسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين!

"جـ" كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشرية; وهي تدفع إلى التكاليف التي تشق عليها، إلى شدة الارتباط بالله; وشدة الطمأنينة إليه; وشدة الاستعانة به; وشدة الثقة بقدرته وقوته.. فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي حين يبلغ الخطر قمته. وهذه كلها حقائق يستخدمها المنهج الرباني; والله هو الذي خلق هذه النفوس. وهو الذي يعلم كيف تربى وكيف تقوى وكيف تستجاش وكيف تستجيب..

وبمناسبة تحريض الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به آخر الدرس، وذكر المبطئين المثبطين في أوله، يقرر قاعدة عامة في الشفاعة، وهي تشمل التوجيه والنصح والتعاون:

من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، وكان الله على كل شيء مقيتا ..

فالذي يشجع ويحرض ويعاون على القتال في سبيل الله، يكون له نصيب من أجر هذه الدعوة وآثارها. والذي يبطئ ويثبط تكون له تبعة فيها وفي آثارها.. وكلمة كفل توحي بأنه متكفل بجرائرها. والمبدأ عام في كل شفاعة خير، أو شفاعة سوء. وقد ذكر المبدأ العام بمناسبة الملابسة الخاصة، على طريقة المنهج القرآني، في إعطاء القاعدة الكلية من خلال الحادثة الجزئية، وربط الواقعة المفردة بالمبدأ العام كذلك. وربط الأمر كله بالله، الذي يرزق بكل شيء. أو الذي يمنح القدرة على كل شيء. وهو ما يفسر كلمة "مقيت" في قوله تعالى في التعقيب: وكان الله على كل شيء مقيتا .

التالي السابق


الخدمات العلمية