صفحة جزء
[ ص: 788 ] [ ص: 789 ] بسم الله الرحمن الرحيم

بقية سورة النساء وأول سورة المائدة الجزء السادس

[ ص: 790 ] [ ص: 791 ] بسم الله الرحمن الرحيم

هذا الجزء السادس مؤلف من شطرين: الشطر الأول تتمة سورة النساء; التي بدأت في أواخر الجزء الرابع، واستغرقت الجزء الخامس كله; وبقيتها في هذا الجزء.. والشطر الثاني - وهو معظم هذا الجزء - من سورة المائدة.

وسنقصر الحديث - في هذا الموضع - عن الشطر الأول من هذا الجزء; ونؤجل الحديث عن شطره الثاني إلى موضعه; لنستعرض "شخصية" سورة المائدة وجوها وموضوعاتها على المنهج الذي اتبعناه في هذا الكتاب.. بعون من الله.

تمضي بقية سورة النساء على منهج السورة الذي أوضحناه في التقديم لها في الجزء الرابع ، والذي يحسن أن نشير إليه ملخصا هنا في أخصر صورة:

إن هذه السورة تعالج بناء التصور الإسلامي الصحيح، في ضمير الجماعة المسلمة التي التقطها الإسلام من سفح الجاهلية، ليرقى بها صعدا في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة; وتخليص هذا الضمير من رواسب الجاهلية، التي تغبش الصورة! أو - كما قلنا هناك - محو الملامح الجاهلية وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة..

ثم تعالج - على ضوء التصور الجديد - ضمير الأمة المسلمة، وخلقها، وتقاليدها الاجتماعية، وتخلصه من رواسب الجاهلية في الخلق والتقاليد; كما خلصته من رواسب الجاهلية في التصور والاعتقاد. وتنظم حياتها الاجتماعية، وروابطها العائلية، على أساس المنهج الرباني القويم.

وهي - في أثناء هذا وذلك - تواجه العقائد المنحرفة، وتواجه أصحاب هذه العقائد، سواء منهم المشركون أو أهل الكتاب من اليهود والنصارى ; وتصحح هذه العقائد وتقرر وجه الحق في الانحرافات التي تفسدها.

ثم تخوض بالجماعة المسلمة معركة حامية مع أهل الكتاب بصفة عامة، واليهود من أهل الكتاب بصفة خاصة. فهم الذين وقفوا للدعوة الجديدة منذ أن وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، ومنذ أن تبين اليهود خطر هذه الدعوة الجديدة على كيانهم ووضعهم الممتاز في يثرب ، ودعاويهم في التفرد بالقرب من الله، وأنهم شعب الله المختار، ومن ثم حربهم للدعوة الجديدة بكل سلاح! والسورة تكشف طبيعتهم ووسائلهم، وتاريخهم مع أنبيائهم أنفسهم، مما يصور موقفهم من دعوة الحق أيا كان ممثلها، ولو كان هو نبيهم وقائدهم ومنقذهم! [ ص: 792 ] كذلك تبين السورة للأمة المسلمة - بعد هذا كله - جسامة التبعة الملقاة على عاتقها، وضخامة الدور المقدر لها، وحكمة إعدادها وتطهيرها وتصفية رواسب الجاهلية في ضميرها وفي حياتها، وضرورة أخذها هذا الأمر بما يستحق من يقظة وقوة، وأداء للتكاليف التي يتطلبها هذا الدور الضخم، بما في ذلك من جهاد في عالم النفس وجهاد في عالم الواقع، وتضحيات ثقال..

وقد سارت السورة في طريقها هذا، في كل حلقاتها الماضية، وبقيتها في هذا الجزء، بقية من هذا المنهج، على نفس الطريق..

يبدأ هذا الجزء بطرف من تطهير النفس وتطهير المجتمع، وإشاعة الثقة في جو الجماعة المسلمة، واستبعاد قالة السوء فيها - مع الانتصاف من الظلم - والحض على العفو والسماحة، وتقرير أن الله لا يحب الجهر بالسوء - إلا من مظلوم ينتصف لظلمه - ومع هذا فإنه سبحانه يحب العفو عن السوء، وهو "عفو" "قدير" .

ثم بيان لطبيعة التصور الإسلامي، الذي يجعل دين الله واحدا، ويجعل رسل الله موكبا يحمل هذا الدين الواحد; ويجعل التفرقة بين الرسل، والتفرقة بين ما جاءوا به كفرا صراحا.. هذا البيان يجيء بصدد التنديد باليهود - من أهل الكتاب - الذين ينكرون النبوة والأنبياء - بعد أنبيائهم - تعصبا وحقدا.

ومن هنا تبدأ جولة مع اليهود تكشف عن تعنتهم مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم: موسى - عليه السلام - مما يكشف عن طبيعة السوء فيهم، وموقفهم تجاه الحق ودعوته أيا كان الداعي إلى هذا الحق; ولو كان هو نبيهم الأكبر موسى ، وكذلك موقفهم من عيسى عليه السلام وأمه وإطلاق قالة السوء فيها - مما يكرهه الله ولا يحبه - فيبدو عندئذ موقفهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن دعوة الحق الأخيرة مفهوما ومكشوفا! وبمناسبة دعاوى اليهود على المسيح عليه السلام ، وتبجحهم بقتله! يقرر القرآن حقيقة الأمر، وطبيعة هذا الزعم. ويذكر كيف عاقب الله اليهود على ظلمهم وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل.. بحرمانهم من بعض الطيبات التي أحلت لهم في الدنيا، وبالعذاب الأليم الذي ينتظرهم في الآخرة. مستثنيا الراسخين في العلم والمؤمنين الذين عرفوا الحق وآمنوا به واتبعوه..

ويرد على تكذيب اليهود برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقرير أنها أمر طبيعي مألوف لا يثير عجبا ولا غرابة ولا استنكارا. إذ هو جاء على سنة الله في إرسال الرسل للبشر; من لدن نوح عليه السلام; ثم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود .. وغيرهم ممن يقر اليهود برسالة بعضهم وينكرون رسالة بعضهم تعنتا وحقدا. وهو الأمر الطبيعي أن يرسل الله لعباده رسلا مبشرين ومنذرين.. لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .. فهو أمر ضروري، فوق أنه طبيعي..

وفي مقابل إنكار اليهود يقرر شهادة الله - سبحانه - وشهادة الملائكة. وكفى بالله شهيدا. ويتوعد الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله.. الذين كفروا وظلموا.. يتوعدهم ألا يغفر الله لهم وألا يهديهم سبيلا إلا سبيل جهنم خالدين فيها أبدا.. ويعقب على هذا بنداء للناس كافة، وإعلانهم أن هذا الرسول قد جاءهم بالحق من ربهم، ودعوتهم إلى الإيمان، وإلا فإن لله ما في السماوات والأرض. وقد شهد بصحة هذه الرسالة ودعاهم إلى الإيمان بها، فهم إذن وما يختارون لأنفسهم بإزاء دعوة ممن له ما في السماوات والأرض.

وهكذا تنتهي هذه الجولة مع اليهود من أهل الكتاب . وقد كشفت عن طبيعتهم ووسائلهم وعادة السوء فيهم من قديم، وردت كيدهم بهذا الكشف، وقررت كلمة الحق في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 793 ] وأقامت الحجة على الناس بشهادة الله سبحانه.. فوق ما قررته من جسامة تبعة الرسل، وأصحاب دعوة الحق، فهي إقامة الحجة على الناس من جانب، ومن الجانب الآخر أن أمر الناس كلهم معلق بأعناق الرسل والمؤمنين برسالتهم، لينجو الناس من عقاب الله; أو يستحقوه عن بينة.. وهي تبعة خطيرة جسيمة.

فإذا انتهت هذه الجولة مع اليهود ; وأنصف الله عيسى بن مريم وأمه منهم; وكذب دعاوى السوء اليهودية عن عيسى وعن مريم .. بدأت الجولة الثانية مع النصارى - أتباع عيسى عليه السلام - لتصحيح غلوهم في أمر المسيح - عبد الله ونبيه - وكفهم عن هذا الغلو، وتقرير الحق في شأنه: فهو عبد الله لا يستنكف أن يكون عبدا لله. وكذلك الملائكة - تصحيحا لمزاعمهم عن روح القدس - ونفي التثليث ونفي الأبوة عن الله سبحانه وتعالى..

وفي ثنايا هذا التصحيح يتقرر التصور الإسلامي الصحيح، ويتمحض الأمر كله في أن يكون: ألوهية وعبودية.. ألوهية الله وحده; وعبودية كل من عداه.. وهي القاعدة الكبرى في العقيدة الإسلامية، والسمة البارزة، والمقوم الأساسي..

ومن ثم يجيء التبشير للمؤمنين، والإنذار للكافرين المستنكفين عن العبودية لله; ويجيء إعلان عام للناس كالذي ختمت به الجولة الأولى مع اليهود ، بأنه قد جاء للناس برهان من ربهم ونور مبين، فلا حجة ولا شبهة ولا معذرة للمتخلفين.

وتختم السورة بآية تحتوي بقية في أحكام المواريث في حالة الكلالة. وقد سبق في السورة حكم بعض الحالات. وهذه بقيتها.. وهي بقية من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الجديد الذي جاء الإسلام ليقيم على أساسه حياة الجماعة المسلمة; ويحولها - كما قلنا في أول السورة - إلى أمة، لها طابع الأمة المتميزة ونظامها وخصائصها المستقلة. لتؤدي دورها الضخم في الحياة البشرية; وفي المجتمع الإنساني. دور القيادة والوصاية والتقويم.

وهكذا يبدو - من استعراض السورة كلها، ثم استعراض هذا القطاع منها - أن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، يسير مع التهذيب الخلقي، مع تصحيح العقيدة والتصور، مع خوض المعركة مع الأعداء المتربصين بالجماعة المسلمة، مع بيان ضخامة التبعة والدور الذي على هذه الجماعة أن تقوم به.. وأن القرآن - كتاب هذه الدعوة ودستور هذه الأمة - ينهض بهذا كله.. في صورة شاملة كاملة متوازنة دقيقة. صورة تجعل من الحتم على كل من يريد إعادة بناء هذه الأمة وإحياءها وبعثها، لتنهض من جديد بتبعاتها ودورها، أن يتخذ من هذا القرآن منهجا لدعوته، ومنهجا لحركته، ومنهجا لكل خطوة في طريق الإحياء والبعث وإعادة البناء.. والقرآن حاضر لأداء دوره الذي أداه أول مرة. وهو خطاب الله الباقي للنفس البشرية في كل أطوارها. لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد.. كما يقول عنه أعرف الناس به - صلى الله عليه وسلم - الذي جاهد به الكفار والمنافقين وأهل الكتاب المنحرفين; وأقام به هذه الأمة المتفردة في تاريخ الناس أجمعين..

التالي السابق


الخدمات العلمية