ثم يمضي في بيان حال القوم ، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك ، قبل أن يبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين : 
سماعون للكذب، أكالون للسحت. فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين  . . 
كرر أنهم سماعون للكذب . مما يشي بأن هذه أصبحت خصلة لهم . . تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل ، وتنقبض لسماع الحق والصدق . . وهذه طبيعة القلوب حين تفسد ، وعادة الأرواح حين تنطمس . . ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة ، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات . . وما أروج الباطل في هذه الآونة وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة ! 
وهؤلاء : سماعون للكذب . أكالون للسحت . . 
والسحت كل مال حرام  . . والربا والرشوة وثمن الكلمة والفتوى ! في مقدمة ما كانوا يأكلون ، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان ! وسمي الحرام سحتا لأنه يقطع البركة ويمحقها . وما أشد انقطاع البركة وزوالها من المجتمعات المنحرفة . كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله . 
ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه فإن شاء أعرض عنهم - ولن يضروه شيئا - وإن شاء حكم بينهم . فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط ، غير متأثر بأهوائهم ، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم . . 
إن الله يحب المقسطين  . . 
والرسول - صلى الله عليه وسلم - والحاكم المسلم ، والقاضي المسلم ، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن ; وإنما يقوم بالقسط لله . لأن الله يحب المقسطين . فإذا ظلم الناس وإذا خانوا ، وإذا انحرفوا ، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم . لأنه ليس عدلا لهم ; وإنما هو لله . . وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام ، في كل مكان وفي كل زمان . 
وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر . إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتميا . فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله . وأهلها جميعا ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة . مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام ; وهو  
[ ص: 894 ] ألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام ; وعلى ما يختص بالنظام العام . فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم ، كامتلاك الخنزير وأكله ، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم . ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم . وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا . كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء ، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعا : مسلمين وغير مسلمين . فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام . . 
وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير ، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; مثال ذلك ما رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=17191نافع  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر   - رضي الله عنهما - : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=653363إن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال  nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام   : كذبتم . إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال  nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام   : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم . فقالوا : صدق يا محمد  فيها آية الرجم ! فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما . فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة  .. (أخرجه الشيخان واللفظ 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070للبخاري   ) 
ومثال ذلك ما رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد   - بإسناده - 
nindex.php?page=hadith&LINKID=682947عن  nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  قال : 
"أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم . فأما إذ قدم محمد  فلا نعطيكم ! فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكما بينهم . ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد  بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ! فدسوا إلى محمد  من يخبر لكم رأيه . . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ! فدسوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله تعالى : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، إلى قوله: الفاسقون  . . ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل  . . (أخرجه 
 nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود  من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد  عن أبيه ) . . وفي رواية 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935لابن جرير  عين فيها "العزيزة " وهي 
بنو النضير   "والذليلة " وهي 
بنو قريظة   . . مما يدل - كما قلنا - على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم . .