صفحة جزء
وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير ، إلى الكون الواسع . إلى الآيات الكبرى من حولهم . الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها . الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها :

وما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم. ما فرطنا في الكتاب من شيء. ثم إلى ربهم يحشرون . .

وهي حقيقة هائلة . . هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك - حيث لم يكن لهم علم منظم - أن تشهد بها . . حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم . . لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك . . وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر ، ولكن علمهم لا يزيد شيئا على أصلها ! وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها ، وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء ، وتدبير الله لكل شيء . . وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة . .

فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون ، أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون ؟ [ ص: 1085 ] إن المنهج القرآني - في هذا النموذج - لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود ، وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة ، وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني . .

إنه لا يقدم للفطرة جدلا لاهوتيا ذهنيا نظريا . ولا يقدم لها جدلا كلاميا (كعلم التوحيد ) الغريب على المنهج الإسلامي . ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية ، إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي - بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة - ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب ، وتتلقى عنه وتستجيب ، ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها - وهي تتلقى من الوجود - تضل في المتاهات والدروب .

ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى :

والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات. من يشأ الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم . .

فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم . . إنهم صم وبكم في الظلمات . . ويقرر سنة الله في الهدى والضلال . . إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك ، وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد .

بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله . إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة ، وتقرير موقف صاحب الدعوة ، وهو يتحرك بهذه العقيدة ، ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل . .

ولعل هذه اللمسات - إلى جانب ما تقدم في مقدمة السورة - عن المنهج يكون فيها ما ينير الطريق . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية