صفحة جزء
والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة:

ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار. احتضار الذين افتروا على الله الكذب، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام، أمرهم به الله، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع الله المستيقن - وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم. وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب:

فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته؟ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله؟ قالوا: ضلوا عنا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ..

ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذبا أو كذبوا بآياته وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم، ويقبضون أرواحهم. فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار:

قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله؟ ..

أين دعاويكم التي افتريتم على الله؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة فلا تجدون لكم عاصما من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله؟

ويكون الجواب هو الجواب الوحيد، الذي لا معدى عنه، ولا مغالطة فيه:

قالوا: ضلوا عنا ! غابوا عنا وتاهوا! فلا نحن نعرف لهم مقرا، ولا هم يسلكون إلينا طريقا! .. فما أضيع عبادا لا تهتدي إليهم آلهتهم، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها. في مثل هذا الأوان! وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين .. [ ص: 1290 ] وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عند ما جاءهم بأس الله في الدنيا: فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين ! فإذا انتهى مشهد الاحتضار، فنحن أمام المشهد التالي، وهؤلاء المحتضرون في النار! .. ويسكت السياق عما بينهما، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر. وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار! قال: ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار، كلما دخلت أمة لعنت أختها، حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار. قال: لكل ضعف ولكن لا تعلمون. وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل، فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون .

ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار .

انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس.. هنا في النار.. أليس إبليس هو الذي عصى ربه؟

وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار؟ .. فادخلوا إذن جميعا.. ادخلوا سابقين ولاحقين.. فكلكم أولياء..

وكلكم سواء! ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها ويملي متبوعها لتابعها.. فلتنظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها، وكيف يكون التنابز فيها:

كلما دخلت أمة لعنت أختها ! فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه ويتنكر فيها الولي لمولاه! حتى إذا اداركوا فيها جميعا ..

وتلاحق آخرهم وأولهم، واجتمع قاصيهم بدانيهم، بدأ الخصام والجدال:

قالت أخراهم لأولاهم: ربنا هؤلاء أضلونا، فآتهم عذابا ضعفا من النار ..

وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء، وهم متناكرون أعداء يتهم بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ويطلب له من " ربنا " شر الجزاء.. من " ربنا " الذي كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء! فيكون الجواب استجابة للدعاء.

ولكن أية استجابة؟! قال: لكل ضعف، ولكن لا تعلمون .

لكم ولهم جميعا ما طلبتم من مضاعفة العذاب! وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين، حينما سمعوا جواب الدعاء، فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة..

كلنا سواء.. في هذا الجزاء:

وقالت أولاهم لأخراهم: فما كان لكم علينا من فضل. فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ! وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل - وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم - : [ ص: 1291 ] إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش، وكذلك نجزي الظالمين ..

ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب.. مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة. فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير، فانتظر حينئذ - وحينئذ فقط - أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين، فتقبل دعاءهم أو توبتهم - وقد فات الأوان - وأن يدخلوا إلى جنات النعيم! أما الآن، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط، فهم هنا في النار، التي تداركوا فيها جميعا وتلاحقوا وتلاوموا فيها وتلاعنوا، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء، ونالوا جميعا ما طلبه الأولياء للأولياء! وكذلك نجزي المجرمين ..

ثم إليك هيئتهم في النار:

لهم من جهنم مهاد، ومن فوقهم غواش ..

فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش، يدعوه - للسخرية - مهادا، وما هو مهد ولا لين ولا مريح! - ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم! وكذلك نجزي الظالمين ..

والظالمون هم المجرمون. والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله، المفترون الكذب على الله.. كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن.

والآن فلننظر إلى المشهد المقابل:

والذين آمنوا وعملوا الصالحات - لا نكلف نفسا إلا وسعها - أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. ونزعنا ما في صدورهم من غل، تجري من تحتهم الأنهار، وقالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذا - وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله - لقد جاءت رسل ربنا بالحق. ونودوا: أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ..

هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم، لا يكلفون إلا طاقتهم.. هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم! إنهم أصحابها - بإذن الله وفضله - ورثها لهم - برحمته - بعملهم الصالح مع الإيمان.. جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان. وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم، وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم! ولولا رحمة الله ما كفى عملهم - في حدود طاقتهم - وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله " . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " . وليس هنا لك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا ينطق عن الهوى.. وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين، إنما ثار عن الهوى! فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة. ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا. فكتب على نفسه الرحمة وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف وكتب لهم به الجنة، فضلا منه ورحمة، فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة..

وبعد، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار [ ص: 1292 ] ويتخاصمون. وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد، بعد أن كانوا أصفياء أولياء.. فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون، يرف عليهم السلام والولاء:

ونزعنا ما في صدورهم من غل ..

فهم بشر. وهم عاشوا بشرا. وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه، وغل يغالبونه ويغلبونه..

ولكن تبقى في القلب منه آثار.

قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين " .. وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: ونزعنا ما في صدورهم من غل ..

وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم. فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار فترف على الجو كله أنسام:

تجري من تحتهم الأنهار ..

وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف:

وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ..

وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب: ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار .. فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم:

ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ..

إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.

ثم يستمر العرض، فإذا نحن أمام مشهد لاحق للمشهد السابق.. لقد اطمأن أصحاب الجنة إلى دارهم واستيقن أصحاب النار من مصيرهم. وإذا الأولون ينادون الآخرين، يسألونهم عما وجدوه من وعد الله القديم:

ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا: نعم! فأذن مؤذن بينهم: أن لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون ..

وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه.. إن المؤمنين على ثقة من تحقق وعيد الله كثقتهم من تحقق وعده.

ولكنهم يسألون! ويجيء الجواب في كلمة واحدة.. نعم..!

وعندئذ ينتهي الجواب، ويقطع الحوار:

فأذن مؤذن بينهم: أن لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة كافرون ..

فيتحدد معنى " الظالمين " المقصود. وهو مرادف لمعنى " الكافرين " فهم الذين يصدون عن سبيل الله، ويريدون الطريق عوجا لا استقامة فيه، وهم بالآخرة كافرون.

وفي هذا الوصف: ويبغونها عوجا .. إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله. إنهم يريدون [ ص: 1293 ] الطريق العوجاء ولا يريدون الطريق المستقيم. يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة. فالاستقامة لها صورة واحدة: صورة المضي على طريق الله ونهجه وشرعه. وكل ما عداه فهو أعوج وهو إرادة للعوج. وهذه الإرادة تلتقي مع الكفر بالآخرة. فما يؤمن بالآخرة أحد، ويستيقن أنه راجع إلى ربه ثم يصد عن سبيل الله، ويحيد عن نهجه وشرعه.. وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعا غير شرع الله. التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الداخلي الصحيح.

التالي السابق


الخدمات العلمية