صفحة جزء
وإلى ثمود أخاهم صالحا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. قد جاءتكم بينة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية، فذروها تأكل في أرض الله، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم. واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبوأكم في الأرض، تتخذون من سهولها قصورا، وتنحتون الجبال بيوتا، فاذكروا آلاء الله، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا - لمن آمن منهم - : أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه؟ قالوا: إنا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا: إنا بالذي آمنتم به كافرون. فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين. فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ..

وهذه صفحة أخرى من صحائف قصة البشرية وهي تمضي في خضم التاريخ. وها هي ذي نكسة أخرى إلى الجاهلية ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل، ومصرع جديد من مصارع المكذبين.

وإلى ثمود أخاهم صالحا. قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .. [ ص: 1313 ] ذات الكلمة الواحدة التي بها بدأ هذا الخلق وإليها يعود. وذات المنهج الواحد في الاعتقاد والاتجاه والمواجهة والتبليغ..

ويزيد هنا تلك المعجزة التي صاحبت دعوة صالح، حين طلبها قومه للتصديق:

قد جاءتكم بينة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية ..

والسياق هنا، لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة، ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب، لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة، بل يعلن وجودها عقب الدعوة. وكذلك لا يذكر تفصيلا عن الناقة أكثر من أنها بينة من ربهم. وأنها ناقة الله وفيها آية منه. ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية، أو أنها أخرجت لهم إخراجا غير عادي. مما يجعلها بينة من ربهم، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى، ويجعلها آية على صدق نبوته.. ولا نزيد على هذا شيئا مما لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن - وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر - فنمضي نحن مع النصوص ونعيش في ظلالها:

فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ..

إنها ناقة الله، فذروها تأكل في أرض الله، وإلا فهو النذير بسوء المصير..

وبعد عرض الآية والإنذار بالعاقبة، يأخذ صالح في النصح لقومه بالتدبر والتذكر، والنظر في مصائر الغابرين، والشكر على نعمة الاستخلاف بعد هؤلاء الغابرين:

واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبوأكم في الأرض، تتخذون من سهولها قصورا، وتنحتون الجبال بيوتا. فاذكروا آلاء الله، ولا تعثوا في الأرض مفسدين .

ولا يذكر السياق هنا أين كان موطن ثمود، ولكنه يذكر في سورة أخرى أنهم كانوا في الحجر - وهي بين الحجاز والشام.. ونلمح من تذكير صالح لهم، أثر النعمة والتمكين في الأرض لثمود، كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون فيه. فهو سهل وجبل، وقد كانوا يتخذون في السهل القصور، وينحتون في الجبال البيوت. فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير.. وصالح يذكرهم استخلاف الله لهم من بعد عاد، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها، ولكن يبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد، وأن سلطانهم امتد خارج الحجر أيضا. وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الأرض، محكمين فيها. وهو ينهاهم عن الانطلاق في الأرض بالفساد، اغترارا بالقوة والتمكين، وأمامهم العبرة ماثلة في عاد الغابرين! وهنا كذلك نلمح فجوة في السياق على سبيل الإيجاز والاختصار. فقد آمنت طائفة من قوم صالح، واستكبرت طائفة. والملأ هم آخر من يؤمن بدعوة تجردهم من السلطان في الأرض، وترده إلى إله واحد هو رب العالمين! ولا بد أن يحاولوا فتنة المؤمنين الذين خلعوا ربقة الطاغوت من أعناقهم بعبوديتهم لله وحده، وتحرروا بذلك من العبودية للعبيد! وهكذا نرى الملأ المستكبرين من قوم صالح يتجهون إلى من آمن من الضعفاء بالفتنة والتهديد:

قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا - لمن آمن منهم - : أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه؟ ..

وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف، ولاستنكار إيمانهم به، وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة من ربه. [ ص: 1314 ] ولكن الضعاف لم يعودوا ضعافا! لقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم، والثقة في نفوسهم، والاطمئنان في منطقهم.. إنهم على يقين من أمرهم، فماذا يجدي التهديد والتخويف؟ وماذا تجدي السخرية والاستنكار..

من الملإ المستكبرين؟:

قالوا: إنا بما أرسل به مؤمنون .

ومن ثم يعلن الملأ عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد:

إنا بالذي آمنتم به كافرون ..

على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح. والتي لا تدع ريبة لمستريب.. إنه ليست البينة هي التي تنقص الملأ للتصديق.. إنه السلطان المهدد بالدينونة للرب الواحد.. إنها عقدة الحاكمية والسلطان، إنها شهوة الملك العميقة في الإنسان! إنه الشيطان الذي يقود الضالين من هذا الخطام! وأتبعوا القول بالعمل، فاعتدوا على ناقة الله التي جاءتهم آية من عنده على صدق نبيه في دعواه والتي حذرهم نبيهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم:

فعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ..

إنه التبجح الذي يصاحب المعصية. ويعبر عن عصيانهم بقوله: " عتوا " لإبراز سمة التبجح فيها، وليصور الشعور النفسي المصاحب لها. والذي يعبر عنه كذلك ذلك التحدي باستعجال العذاب والاستهتار بالنذير:

ولا يستأني السياق في إعلان الخاتمة، ولا يفصل كذلك:

فأخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين ..

والرجفة والجثوم، جزاء مقابل للعتو والتبجح. فالرجفة يصاحبها الفزع، والجثوم مشهد للعجز عن الحراك. وما أجدر العاتي أن يرتجف، وما أجدر المعتدي أن يعجز. جزاء وفاقا في المصير. وفي التعبير عن هذا المصير بالتصوير.

ويدعهم السياق على هيئتهم.. " جاثمين " .. ليرسم لنا مشهد صالح الذي كذبوه وتحدوه:

فتولى عنهم، وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين .

إنه الإشهاد على أمانة التبليغ والنصح والبراءة من المصير الذي جلبوه لأنفسهم بالعتو والتكذيب.

.. وهكذا تطوى صفحة أخرى من صحائف المكذبين. ويحق النذير بعد التذكير على المستهزئين..

التالي السابق


الخدمات العلمية