صفحة جزء
[ ص: 1512 ] [ ص: 1513 ] بسم الله الرحمن الرحيم من بقية سورة الأنفال وأول سورة التوبة الجزء العاشر [ ص: 1514 ] [ ص: 1515 ] بسم الله الرحمن الرحيم

يتألف هذا الجزء من بقية سورة الأنفال - التي وردت أوائلها في الجزء التاسع - ومن قسم كبير من سورة التوبة.. وسنمضي أولا مع بقية الأنفال، أما سورة التوبة فسنعرف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله.

لقد ألممنا بالخطوط الرئيسية للسورة في مطلعها عند نهاية الجزء التاسع. وهذه البقية منها تمضي على هذه الخطوط الرئيسية فيها.. إلا أن الظاهرة التي تلمح بوضوح في سياق السورة، هي أن هذا الشطر الأخير منها، يكاد يكون مماثلا في سياقه وترتيب موضوعاته للشطر الأول منها، ومع انتفاء التكرار بسبب تجدد الموضوعات، إلا أن ترتيب هذه الموضوعات في السياق يكاد يجعل هذا الشطر دورة، والشطر الأول دورة، بينهما هذا التناسق العجيب!

لقد بدأ الشطر الأول بالحديث عن الأنفال وتنازعهم عليها; فردها إلى الله والرسول.. ثم دعاهم إلى التقوى، وبين لهم حقيقة الإيمان ليرتفعوا إليها.. ثم كشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي يتنازعون أنفالها، مستحضرا جانبا من مواقف المعركة ومشاهدها، فإذا التدبير كله لله، والمدد كله من الله، والمعركة كلها مسوقة لتحقيق إرادة الله، وإن هم فيها إلا ستار وأداة.. ثم أهاب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند الزحف; وطمأنهم إلى نصرة الله ومعيته، وإلى تخذيل الله لأعدائهم وأخذهم بذنوبهم.. ثم حذرهم خيانة الله وخيانة الرسول وفتنة الأموال والأولاد; وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحذر الذين كفروا عاقبة ما هم فيه; وأن يقبل منهم الاستجابة - لو استجابوا - ويكل خبيئهم إلى الله; وأمر المسلمين أن يقاتلوهم إن تولوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله..

وكذلك يسير هذا الشطر الثاني.. يبدأ ببيان حكم الله في الغنائم - بعد أن ردها إلى الله ورسوله - ثم يدعوهم إلى الإيمان بالله وما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. ثم يكشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي جاءت بهذه الغنائم; ويستحضر جانبا آخر من مواقف المعركة ومشاهدها، يتجلى فيه هذا التقدير وذلك التدبير، كما يتجلى فيه أنهم لم يكونوا سوى أداة لقدر الله وستار.. ثم يهيب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند اللقاء، وإلى ذكر الله، وطاعته وطاعة رسوله; ويحذرهم التنازع مخافة الفشل والانكسار; ويدعوهم إلى الصبر; وتجنب البطر والرياء في الجهاد; ويحذرهم عاقبة الكفار الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، منخدعين بمكر الشيطان; ويدعوهم إلى التوكل على الله وحده، القوي القادر على النصر الحكيم في تقديره وتدبيره.. ثم يريهم سنة الله [ ص: 1516 ] في أخذ الكافرين المكذبين بذنوبهم.. وكما ذكر الملائكة في الشطر الأول وهم يثبتون المؤمنين ويضربون أعناق الكفار وأيديهم، فكذلك يذكر في هذا الشطر الثاني أن الملائكة يتوفون الذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم.. وكما قال في الشطر الأول عن الذين كفروا: إنهم شر الدواب، فكذلك يكرر هنا هذا الوصف بمناسبة الحديث عن نقضهم لعهدهم كلما عاهدوا، وتمهيدا لما يأمر به الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أحكام التعامل معهم في الحرب والسلم; وهي أحكام مفصلة للعلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات المعادية والمسالمة، بعضها أحكام نهائية، وبعضها أحكام استكملت فيما بعد في سورة التوبة..

وإلى هنا تكاد تكون هذه الدورة الثانية في السورة مطابقة - من حيث طبيعة الموضوعات ومن حيث ترتيبها في السياق - لما جاء في الدورة الأولى، مع شيء من التفصيل في أحكام المعاملات بين المعسكر الإسلامي وسائر المعسكرات.

ثم تزيد في ختام السورة موضوعات وأحكام أخرى متصلة بها، ومكملة لها:

يذكر الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه، بمنته عليهم في تأليف قلوبهم، وقد كانت مستعصية على التأليف لولا إرادة الله ورحمته ومنته.

ويطمئنهم الله كذلك إلى كفايته لهم وحمايته.. ومن ثم يأمر رسوله بتحريضهم على القتال; ويريهم أنهم بإيمانهم - إذا صبروا - أكفاء لعشرة أضعافهم من الذين كفروا الذين لا يفقهون، لأنهم لا يؤمنون! وأنهم في أضعف حالاتهم أكفاء لضعفهم من الذين كفروا - متى صبروا. والله مع الصابرين.

ثم يعاتبهم الله سبحانه على قبولهم الفدية في الأسرى; وهم لم يثخنوا في الأرض بعد، ولم يخضدوا شوكة عدوهم; ولم يستقر سلطانهم وتثبت دولتهم. فيقرر بهذا منهج الحركة الإسلامية في المراحل المختلفة والأحوال المتعددة، ويدل على مرونة هذا المنهج وواقعيته في مواجهة الواقع في المراحل المختلفة.. وكذلك يبين الله لهم كيف يعاملون من في أيديهم من الأسرى، وكيف يحببونهم في الإيمان، ويزينونه في قلوبهم; ثم يخذل الله هؤلاء الأسرى عن محاولة الخيانة مرة أخرى وييئسهم من جدواها; فالله الذي أمكن منهم أول مرة حين خانوه بالكفر، سيمكن منهم مرة أخرى لو خانوا رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأخيرا تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها، وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام، ولكنها لا تلحق بدار الإسلام، ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة، ومن حيث المبدأ العام أيضا. حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي; وطبيعة المنهج الإسلامي كله; وحيث يبدو بوضوح كامل أن "التجمع الحركي" هو قاعدة الوجود الإسلامي، الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية; وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم.

وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير، لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل:

التالي السابق


الخدمات العلمية