صفحة جزء
ولقد أطلنا الاقتباس من نصوص السورة في هذا الاستعراض الإجمالي - قبل مواجهة هذه النصوص فيما بعد بالتفصيل - عن قصد! ذلك أن سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح، ويصف تكوينه العضوي.. وفي هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية; كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال، ومن النفاق والضعف، والتردد في الواجبات والتكاليف، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى، وعدم المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة - وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار - مما استدعى حملات طويلة مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير، تفي بحاجة المجتمع إليها.

ولقد سبق أن أشرنا إجمالا إلى أن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح لم تتم تربيتها; ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل. إلا أن هذه الإشارة المجملة لا يمكن فهمها بوضوح إلا بمراجعة الواقع التاريخي الحركي قبل الفتح وبعده.. وسنحاول أن نلم به هنا بأشد اختصار ممكن; قبل التعليق بشيء على دلالة هذا الواقع التاريخي ومغزاه، ودلالة النصوص القرآنية التي وردت في سياق هذه السورة كذلك.

لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر [ ص: 1571 ] الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: "أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله; ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله.

ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ولرسول الله; ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.

لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حربا شعواء على الدعوة الجديدة، وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة; وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة..

لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه.. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين; في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد; وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركه قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض!

وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان.. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله; وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان..

بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عودا في المجتمع العربي; فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى; وكان هذا النوع قليلا، فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل; فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.

وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة; ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة; مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين.. قال ابن كثير في التفسير: "وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يعني ليلة العقبة): اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم" قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة". قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل".

ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة; ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة; ويوثقون هذا البيع فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين; بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم، وأن العرب كلها سترميهم; وأنهم [ ص: 1572 ] لن يعيشوا بعدها في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة وبين ظهرانيهم في المدينة.

ومن رواية ابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية": "قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ابن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر. قال: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم.. عكاظ والمجنة.. وفي المواسم، يقول: "من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة". فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره. حتى إن الرجل ليخرج من اليمن، أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك. ويمضي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم ، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا. فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: "تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة". فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي - وهو أصغر السبعين - إلا أنا. فقال: رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وتعضكم السيوف. فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.. قالوا: أمط عنا يا أسعد! فو الله لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها أبدا! قال: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة "(وقد رواه الإمام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي إدريس به نحوه. وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه. وقال البزار: وروى غير واحد غير ابن خيثم، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه).

فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة; وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة.. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها.. فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة..

ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء.. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة; واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظا بمكانتهم فيهم.. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول: هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقا. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليدا - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه.. مما أنشأ تخلخلا في بناء المجتمع المدني ناشئا عن اختلاف مستوياته الإيمانية.

[ ص: 1573 ] وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة; ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.

وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم; وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة، ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة..

ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف، والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر.. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية.. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة.. نذكر منها على سبيل المثال:

كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ... (الأنفال: 5 - 8)

هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد ... (آل عمران:

7 - 9)

ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم، والله يشهد إنهم لكاذبون. لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون. لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ... (الحشر: 11 - 13)

يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا. إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم [ ص: 1574 ] فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون: إن بيوتنا عورة - وما هي بعورة - إن يريدون إلا فرارا. ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ... إلخ" (الأحزاب: 9 - 14)

يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم، فانفروا ثبات أو انفروا جميعا. وإن منكم لمن ليبطئن، فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ... (النساء: 71 - 73)

ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا: هذه من عندك. قل: كل من عند الله، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا... ... (النساء: 77 - 78)

إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم. إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم. ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله. فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .. (محمد: 36 - 38).

ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم، ما هم منكم ولا منهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون. أعد الله لهم عذابا شديدا، إنهم ساء ما كانوا يعملون. اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين. لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون. استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز. لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون ... (المجادلة: 14 - 22). /

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. ويقول الذين آمنوا: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ... (المائدة: 51 - 53).

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم، إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، تسرون إليهم بالمودة، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، [ ص: 1575 ] يوم القيامة يفصل بينكم، والله بما تعملون بصير. قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده. إلا قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ... (الممتحنة: 1 - 4).

وحسبنا هذه النماذج العشرة من شتى السور، للدلالة على ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض.. نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد وتربية مستمرة..

إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليما في جملته بسبب اعتماده أساسا على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار; وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحيانا، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.

وشيئا فشيئا كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة; ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين; ومن المترددين كذلك والمتهيبين; وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين.. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة; وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد..

نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها; فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها.. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا. وجاءت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة وتنص عليها.

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم .. (التوبة: 100).

"لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة".. (من حديث أخرجه البخاري. وكان هذا رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عمر - رضي الله عنه - وقد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة حينما أدركته لحظة ضعف فأرسل إلى قريش سرا ينبئهم بتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة).

لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما ... (الفتح: 18 - 19).

لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير ... (الحديد: 10).

"مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي فو الله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت [ ص: 1576 ] غدوة رجل من أصحابي ولا روحة"... (أورده ابن القيم في زاد المعاد وهو رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد إذ تلاحى مع عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - وخالد هو سيف الله. ولكن عبد الرحمن من السابقين الأولين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالد: "دع عنك أصحابي" وهو يعني هذه الطبقة ذات القدر الخاص المتميز في المجتمع المسلم في المدينة.

ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية، لم يكن مانعا أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح; وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد، والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقيدي، والنفاق.. من ذلك المجتمع. بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.

إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة، قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجا جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية; وفيهم كارهون للإسلام منافقون; وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر، وفيهم المؤلفة قلوبهم، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية.

لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزا قويا دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية. فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة - فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك - فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد، بهذه الصورة العنيدة، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها!... فلما دانت قريش بالفتح، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائيا فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام، وأبيدت بنو قريظة، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير... كان ذلك إيذانا بدخول الناس في دين الله أفواجا، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد.

غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر - ولكن على نطاق أوسع - بعد ما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركين لهذا المجتمع; لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة. ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر; كما أنه - سبحانه - كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة.. والله أعلم حيث يجعل رسالته..

وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة: "التوبة": لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين

[ ص: 1577 ] وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من "الطلقاء" الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة. فكان وجود هذين الألفين - مع عشرة آلاف - سببا في اختلال التوازن في الصف - بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن - ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.

كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع ودخول تلك الأفواج الجديدة، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة.. هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة.

ونستطيع أن نستطرد هنا لنتابع خطوات الواقع التاريخي للمجتمع المسلم بعد عامين اثنين من الفتح; عندما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتدت الجزيرة العربية كلها; ولم يثبت إلا مجتمع المدينة - القاعدة الصلبة الخالصة - فهذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها.. إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين الله بعد الفتح، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة. فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتجت الجزيرة المخلخلة، وثبتت القاعدة الصلبة. واستطاعت هذه القاعدة بصلابتها وخلوصها وتناسقها أن تقف في وجه التيار وأن ترده عن مجراه الجارف; وأن تحوله إلى الإسلام مرة أخرى..

إن رؤية هذه الحقيقة - على هذا النحو - كفيلة بأن ترينا تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة - في أول الأمر - وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها، ويفتنونها عن دينها، ويهدرون دماءها، ويفعلون بها الأفاعيل!

لقد كان الله سبحانه يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة.

وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط; وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل الله على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدام النصير الأرضي... إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى..

إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي.

وأخيرا فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارت تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتداد الجزيرة عن الإسلام.

إن هذه الحقيقة - كما أنها ترينا تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة; وفي الأهوال والمشاق والأخطار التي تعرض لها المجتمع المسلم في المدينة حتى الحديبية - هي كذلك تكشف لنا عن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان وفي أي مكان.

[ ص: 1578 ] إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها; والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعيا; ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة. فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ماحق يهدر وجود أية حركة، لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.

على أن الله - سبحانه - هو الذي يتكفل بهذا لدعوته. فحيثما أراد لها حركة صحيحة، عرض طلائعها للمحنة الطويلة; وأبطأ عليهم النصر; وقللهم; وبطأ الناس عنهم; حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا، وتهيؤوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة.. ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده - سبحانه - والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

التالي السابق


الخدمات العلمية