صفحة جزء
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر: أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا - فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم. وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون .

هذه الآيات - وما بعدها إلى الآية الثامنة والعشرين - نزلت تحدد العلاقات النهائية بين المجتمع الإسلامي الذي استقر وجوده في المدينة وفي الجزيرة العربية - بصفة عامة - وبين بقية المشركين في الجزيرة الذين لم يدخلوا في هذا الدين.. سواء منهم من كان له عهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنقضه، حينما لاح له أن مواجهة المسلمين للروم - حين توجهوا لمقابلتهم في تبوك - ستكون فيها القاضية على الإسلام وأهله، أو على الأقل ستضعف من شوكة المسلمين وتهد من قوتهم.. ومن لم يكن له عهد ولكنه لم يتعرض للمسلمين من قبل بسوء.. ومن كان له عهد - موقوت أو غير موقوت - فحافظ على عهده ولم ينقص المسلمين شيئا ولم يظاهر عليهم أحدا.. فهؤلاء جميعا نزلت هذه الآيات وما بعدها لتحدد العلاقات النهائية بينهم وبين المجتمع المسلم في ظل الاعتبارات التي أسلفنا الحديث عنها بشيء من التوسع سواء في تقديم السورة، أو في تقديم هذا الدرس خاصة.

وأسلوب هذه الآيات وإيقاع التعبير فيها، يأخذ شكل الإعلان العام، ورنينه العالي! فيتناسق أسلوب التعبير وإيقاعه مع موضوعه والجو الذي يحيط بهذا الموضوع على طريقة القرآن في التعبير.

[ ص: 1597 ] وقد وردت روايات متعددة في ظروف هذا الإعلان، وطريقة التبليغ به، ومن قام بالتبليغ. أصحها وأقربها إلى طبائع الأشياء وأكثرها تناسقا مع واقع الجماعة المسلمة يومذاك ما قرره ابن جرير وهو يستعرض هذه الروايات. ونقتطف هنا من تعليقاته ما يمثل رؤيتنا لحقيقة الواقعة مغفلين ما لا نوافقه عليه من كلامه وما تناقض فيه بعض قوله مع بعض. إذ كنا لا نناقش الروايات المتعددة ولا نناقش تعليقات الطبري; ولكن نثبت ما نرجح أنه حقيقة ما حدث من مراجعة ما ورد وتحقيقه:

قال في رواية له عن مجاهد: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين .. قال: أهل العهد: مدلج والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك حين فرغ منها، وأراد الحج، ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليا رحمة الله عليهما. فطافا بالناس، بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله; وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر.. فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر. ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حينئذ، ولم يسح أحد".

وقال - بعد استعراض جملة الروايات في حقيقة الأجل ومبدئه ونهايته والمقصودين به:

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين .. (سورة التوبة: 4).

فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (سورة التوبة: 5) يدل على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن كان له منه عهد. وذلك قوله: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله - إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين . (سورة التوبة: 7) فهؤلاء مشركون وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم.

وبعد، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته" ، أوضح الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض قبل التأجيل، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجله محدودا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بإتمام [ ص: 1598 ] عهده إلى غايته مأمورا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب.

وقال في تعقيب آخر على الروايات المتعددة في شأن العهود:

"فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا. فأما من كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم سبيلا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وفى له بعهده إلى مدته، عن أمر الله إياه بذلك. وعلى ذلك ظاهر التنزيل، وتظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".

وإذا نحن تركنا الروايات التي بها ضعف، وما يمكن أن يكون قد تركه الخلاف السياسي - فيما بعد - بين شيعة علي - رضي الله عنه - وأنصار الأمويين، أو أهل السنة، من الأثر في بعض الروايات; فإننا نستطيع أن نقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بأبي بكر - رضي الله عنه - أميرا للحج في هذا العام لما كرهه من الحج والمشركون يطوفون بالبيت عراة. ثم نزلت أوائل سورة التوبة هذه; فبعث بها عليا - رضي الله عنه - في أثر أبي بكر. فأذن بها في الناس - بكل ما تضمنته من أحكام نهائية ومنها ألا يطوف بعد العام بالبيت مشرك.

وقد روى الترمذي في كتاب التفسير - بإسناده - عن علي قال: "بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت "براءة" بأربع. أن لا يطف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فهو إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة"... وهذا الخبر هو أصح ما ورد في هذا الباب. فنكتفي به.

براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ..

هذا الإعلان العام، بهذا الإيقاع العالي; يتضمن المبدأ العام للعلاقة بين المسلمين والمشركين في ذلك الحين في جزيرة العرب قاطبة. إذ كانت العهود المشار إليها هي التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركين في الجزيرة. والإعلان ببراءة الله وبراءة رسوله من المشركين، يحدد موقف كل مسلم; ويوقع إيقاعا عميقا عنيفا على قلب كل مسلم، بحيث لا يبقى بعد ذلك مراجعة ولا تردد!

ثم تأتي بعد الإعلان العام البيانات والمخصصات والشروح لهذا الإعلان:

فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين ..

فهذا بيان للمهلة التي أجل الله المشركين إليها: أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم، ويعدلون أوضاعهم.. آمنين.. لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم. حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم، وعند أول توقع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك; وأن الروم سيأخذونهم أسرى! كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون! ومتى كان ذلك؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض; وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.. وفي أي عصر تاريخي؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانونا إلا قانون الغابة; ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه! بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت [ ص: 1599 ] الفرصة!.. ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان.. ذلك أنه منهج الله الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه. فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره; ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره; بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير - بتأثيره - بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدما من تطور وتغير.

ومع المهلة التي يعطيها للمشركين يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة; ويوقظهم إلى هذه الحقيقة ليفتحوا عيونهم عليها. إنهم بسياحتهم في الأرض لن يعجزوا الله في الطلب! ولن يفلتوا منه بالهرب! ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره: أن يخزيهم ويفضحهم ويذلهم:

واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين ..

وإلى أين يفلتون ويهربون فيعجزون الله عن طلبهم والإتيان بهم; وهم في قبضته - سبحانه - والأرض كلها في قبضته كذلك؟! وقد قدر وقرر أن يذلهم فيخزيهم ولا راد لقضائه؟!

بعد ذلك يبين الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة وتبلغ إلى المشركين لينذروا بها وبالموعد المضروب فيها:

وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر: أن الله بريء من المشركين ورسوله. فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ..

ويوم الحج الأكبر اختلفت الروايات في تحديده: أهو يوم عرفة أم يوم النحر. والأصح أنه يوم النحر. والأذان البلاغ; وقد وقع للناس في الموسم; وأعلنت براءة الله ورسوله من المشركين كافة - من ناحية المبدأ - وجاء الاستثناء في الإبقاء على العهد إلى مدته في الآية التالية.. والحكمة واضحة في تقرير المبدأ العام ابتداء في صورة الشمول; لأنه هو الذي يمثل طبيعة العلاقات النهائية. أما الاستثناء فهو خاص بحالات تنتهي بانتهاء الأجل المضروب. وهذا الفهم هو الذي توحي به النظرة الواسعة لطبيعة العلاقات الحتمية بين المعسكر الذي يجعل الناس عبيدا لله وحده، والمعسكرات التي تجعل الناس عبيدا للشركاء، كما أسلفنا في التقديم للسورة والتقديم لهذا المقطع منها كذلك.

ومع إعلان البراءة المطلقة يجيء الترغيب في الهداية والترهيب من الضلالة:

فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ..

وهذا الترهيب وذلك الترغيب في آية البراءة; يشيران إلى طبيعة المنهج الإسلامي. إنه منهج هداية قبل كل شيء. فهو يتيح للمشركين هذه المهلة لا لمجرد أنه لا يحب أن يباغتهم ويفتك بهم متى قدر - كما كان الشأن في العلاقات الدولية ولا يزال! - ولكنه كذلك يمهلهم هذه المهلة للتروي والتدبر، واختيار الطريق الأقوم; ويرغبهم في التوبة عن الشرك والرجوع إلى الله; ويرهبهم من التولي، وييئسهم من جدواه، وينذرهم بالعذاب الأليم في الآخرة فوق الخزي في الدنيا. ويوقع في قلوبهم الزلزلة التي ترجها رجا لعل الركام الذي ران على الفطرة أن ينفض عنها، فتسمع وتستجيب!

ثم.. هو طمأنة للصف المسلم، ولكل ما في قلوب بعضه من مخاوف ومن تردد وتهيب، ومن تحرج وتوقع. فالأمر قد صار فيه من الله قضاء. والمصير قد تقرر من قبل الابتداء!

وبعد تقرير المبدأ العام في العلاقات بالبراءة المطلقة من المشركين ومن عهودهم يجيء الاستثناء المخصص [ ص: 1600 ] للحالات المؤقتة، التي يصار بعدها إلى ذلك المبدأ العام:

إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا، ولم يظاهروا عليكم أحدا، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين ..

وأصح ما قيل عن هؤلاء الذين ورد فيهم هذا الاستثناء أنهم جماعة من بني بكر - هم بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة - لم ينقضوا عهدهم الذي كان في الحديبية مع قريش وحلفائهم، ولم يشتركوا مع بني بكر في العدوان على خزاعة، ذلك العدوان الذي أعانتهم عليه قريش، فانتقض بذلك عهد الحديبية، وكان فتح مكة بعد سنتين اثنتين من الحديبية، وكان العهد لمدة عشر سنوات من الحديبية. وكانت هذه الجماعة من بني بكر بقيت على عهدها وبقيت على شركها. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنا أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم. والذي يؤيد ما ذهبنا إليه - وهو رواية محمد بن عباد بن جعفر - أن السدي يقول: "هؤلاء ة وبنو مدلج حيان من بني كنانة". وأن مجاهد يقول: "كان لبني مدلج وخزاعة عهد" فهو الذي قال الله فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم .. غير أنه يلاحظ أن خزاعة كانت قد دخلت في الإسلام بعد الفتح. وهذا خاص بالمشركين الذين بقوا على شركهم.. كما يؤيده ما سيجيء في الآية السابعة من قوله تعالى: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين .. فهذان الحيان من كنانة ممن عاهدوا عند المسجد الحرام في الحديبية، ثم لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا. فهم المعنيون في الاستثناء أولا وأخيرا كما ذهب إلى ذلك المفسرون الأوائل، وقد أخذ بهذا القول الأستاذ الشيخ رشيد رضا. وذهب الأستاذ محمد عزة دروزة إلى أن المعنيين بالمعاهدين عند المسجد الحرام هم طائفة أخرى غير المذكورة في الاستثناء الأول. ذلك أنه كان يحب أن يذهب إلى جواز قيام معاهدات دائمة بين المسلمين والمشركين، فارتكن إلى قوله تعالى: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ليستدل منه على جواز تأبيد المعاهدات! وهو قول بعيد كل البعد عن طبيعة الموقف، وعن طبيعة المنهج، وعن طبيعة هذا الدين أيضا! كما بينا ذلك مرارا.

لقد وفى الإسلام لهؤلاء الذين وفوا بعهدهم، فلم يمهلهم أربعة أشهر - كما أمهل كل من عداهم - ولكنه أمهلهم إلى مدتهم. ذلك أنهم لم ينقصوا المسلمين شيئا مما عاهدوهم عليه، ولم يعينوا عليهم عدوا، فاقتضى هذا الوفاء لهم والإبقاء على عهدهم إلى نهايته.. ذلك مع حاجة الموقف الحركي للمجتمع المسلم في ذلك الحين إلى تخليص الجزيرة بجملتها من الشرك; وتحويلها إلى قاعدة أمينة للإسلام; لأن أعداءه على حدود الجزيرة قد تنبهوا لخطره، وأخذوا يجمعون له كما سيجيء في الحديث عن غزوة تبوك - ومن قبل كانت وقعة مؤتة إنذارا بهذا التحفز الذي أخذ فيه الروم؛ فضلا على تحالفهم مع الفرس في الجنوب في اليمن، للتألب على الدين الجديد.

ولقد حدث ما ذكره ابن القيم من أن هؤلاء الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهودهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدتهم. بل حدث أن الآخرين الذين كانوا ينقضون عهودهم وغيرهم ممن أمهلوا أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض، لم يسيحوا في الأرض وإنما اختاروا الإسلام أيضا!

لقد علم الله - سبحانه - وهو ينقل بيده خطى هذه الدعوة، أنه كان الأوان قد آن لهذه الضربة الأخيرة; وأن الظروف كانت قد تهيأت والأرض كانت قد مهدت; وأنها تجيء في أوانها المناسب; وفق واقع الأمر الظاهر، وفق قدر الله المضمر المغيب. فكان هذا الذي كان.

[ ص: 1601 ] ونقف أمام التعقيب الإلهي على الأمر بالوفاء بالعهد للموفين بعهدهم:

فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ..

إنه يعلق الوفاء بالعهد بتقوى الله وحبه - سبحانه - للمتقين. فيجعل هذا الوفاء عبادة له; وتقوى يحبها من أهلها.. وهذه هي قاعدة الأخلاق في الإسلام.. إنها ليست قاعدة المنفعة والمصلحة; وليست قاعدة الاصطلاح والعرف المتغيرين أبدا.. إنها قاعدة العبادة لله وتقواه. فالمسلم يتخلق بما يحبه الله منه ويرضاه له; وهو يخشى الله في هذا ويتطلب رضاه. ومن هنا سلطان الأخلاق في الإسلام; كما أنه من هنا مبعثها الوجداني الأصيل.. ثم هي في الطريق تحقق منافع العباد، وتؤمن مصالحهم، وتنشئ مجتمعا تقل فيه الاحتكاكات والتناقضات إلى أقصى حد ممكن، وترتفع بالنفس البشرية صعدا في الطريق الصاعد إلى الله...

وبعد تقرير الحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين.. المعاهدين وغير المعاهدين منهم سواء.. مع استثناء الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا بالوفاء لهم بعهدهم إلى مدتهم.. يجيء ذكر الإجراء الذي يتخذه المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب:

فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ..

وقد اختلفت الأقوال عن المقصود هنا بقوله تعالى: الأشهر الحرم .. هل هي الأشهر الحرم المصطلح عليها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب: وعلى ذلك يكون الوقت الباقي بعد الأذان في يوم الحج الأكبر بهذه البراءة هو بقية الحجة ثم المحرم.. خمسين يوما.. أم إنها أربعة أشهر يحرم فيها القتال ابتداء من يوم النحر فتكون نهايتها في العشرين من ربيع الأخر؟.. أم إن الأجل الأول للناقضين عهودهم. وهذا الأجل الثاني لمن ليس لهم عهد أصلا أو لمن كان له عهد غير مؤقت؟

والذي يصح عندنا أن الأربعة الأشهر المذكورة هنا غير الأشهر الحرم المصطلح عليها. وأنه أطلق عليها وصف الأشهر الحرم لتحريم القتال فيها; بإمهال المشركين طوالها ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وأنها عامة - إلا فيمن لهم عهد مؤقت ممن أمهلوا إلى مدتهم - فإنه ما دام أن الله قد قال لهم: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر فلا بد أن تكون هذه الأشهر الأربعة ابتداء من يوم إعلانهم بها.. وهذا هو الذي يتفق مع طبيعة الإعلان.

وقد أمر الله المسلمين - إذا انقضت الأشهر الأربعة - أن يقتلوا كل مشرك أنى وجدوه أو يأسروه أو يحصروه إذا تحصن منهم أو يقعدوا له مترصدين لا يدعونه يفلت أو يذهب - باستثناء من أمروا بالوفاء لهم إلى مدتهم - بدون أي إجراء آخر معه. ذلك أن المشركين أنذروا وأمهلوا وقتا كافيا فهم إذن لا يقتلون غدرا، ولا يؤخذون بغتة، وقد نبذت لهم عهودهم، وعلموا سلفا ما ينتظرهم.

غير أنها لم تكن حملة إبادة ولا انتقام.. إنما كانت حملة إنذار ودفع إلى الإسلام:

فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم ..

لقد كانت هنالك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان; ومن إيذائهم للمسلمين وفتنتهم عن دينهم، ومن حرب للمسلمين وتأليب على دولتهم.. ثم من سماحة لهذا الدين. ورسوله وأهله معهم.. وإنه [ ص: 1602 ] لتاريخ طويل.. ومع هذا كله فلقد كان الإسلام يفتح لهم ذراعيه; فيأمر الله نبيه والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وحوربوا وشردوا وقتلوا.. كان يأمرهم أن يكفوا عن المشركين إن هم اختاروا التوبة إلى الله، والتزموا شعائر الإسلام التي تدل على اعتناقهم هذا الدين واستسلامهم له وقيامهم بفرائضه. وذلك أن الله لا يرد تائبا مهما تكن خطاياه:.. إن الله غفور رحيم ..

ولا نحب أن ندخل هنا في الجدل الفقهي الطويل الذي تعرضت له كتب التفسير وكتب الفقه حول هذا النص:

فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ..

وعما إذا كانت هذه شرائط الإسلام التي يكفر تاركها؟ ومتى يكفر؟ وعما إذا كان يكتفى بها من التائب دون بقية أركان الإسلام المعروفة؟.. إلخ

فما نحسب أن هذه الآية بصدد شيء من هذا كله. إنما هو نص كان يواجه واقعا في مشركي الجزيرة يومذاك. فما كان أحدهم ليعلن توبته ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا وهو يعني الإسلام كله، ويعني استسلامه له ودخوله فيه. فنصت الآية على التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأنه ما كان ليفعل هذا منهم في ذلك الحين إلا من نوى الإسلام وارتضاه بكامل شروطه وكامل معناه. وفي أولها الدينونة لله وحده بشهادة أن لا إله إلا الله، والاعتراف برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن محمدا رسول الله.

فليست هذه الآية بصدد تقرير حكم فقهي، إنما هي بصدد إجراء واقعي له ملابساته.

وأخيرا فإنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك. فهو لا يعلنها حرب إبادة على كل مشرك كما قلنا. إنما يعلنها حملة هداية كلما أمكن ذلك. فالمشركون الأفراد، الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى; يكفل لهم الإسلام - في دار الإسلام - الأمن، ويأمر الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيرهم حتى يسمعوا كلام الله ويتم تبليغهم فحوى هذه الدعوة; ثم أن يحرسهم حتى يبلغوا مأمنهم.. هذا كله وهم مشركون.

وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ..

إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب; وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان; ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين; لعل قلوبهم أن تتفتح وتتلقى وتستجيب.. وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم!!!

ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام.. ولكن قمم الإسلام الصاعدة ما تزال تتراءى قمة وراء قمة.. وهذه منها.. هذه الحراسة للمشرك، عدو الإسلام والمسلمين ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين.. هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام!

.. إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة، حتى وهو يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام للإسلام..

[ ص: 1603 ] والذين يتحدثون عن الجهاد في الإسلام فيصمونه بأنه كان لإكراه الأفراد على الاعتقاد! والذين يهولهم هذا الاتهام ممن يقفون بالدين موقف الدفاع; فيروحون يدفعون هذه التهمة بأن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعا عن أهله في حدوده الإقليمية! هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى أن يتطلعوا إلى تلك القمة العالية التي يمثلها هذا التوجيه الكريم:

وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ..

إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون، وإجارة لمن يستجيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه.. ولكنه إنما يجاهد بالسيف ليحطم القوى المادية التي تحول بين الأفراد وسماع كلام الله; وتحول بينهم وبين العلم بما أنزل الله; فتحول بينهم وبين الهدى، كما تحول بينهم وبين التحرر من عبادة العبيد; وتلجئهم إلى عبادة غير الله.. ومتى حطم هذه القوى، وأزال هذه العقبات، فالأفراد - على عقيدتهم - آمنون في كنفه; يعلمهم ولا يرهبهم ويجيرهم ولا يقتلهم; ثم يحرسهم ويكفلهم حتى يبلغوا مأمنهم.. هذا كله وهم يرفضون منهج الله!

وفي الأرض اليوم أنظمة ومناهج وأوضاع من صنع العبيد; لا يأمن فيها من يخالفها من البشر على نفسه ولا على ماله ولا على عرضه ولا على حرمة واحدة من حرمات الإنسان! ثم يقف ناس يرون هذا في واقع البشر وهم يتمتمون ويجمجمون لدفع الاتهام الكاذب عن منهج الله بتشويه هذا المنهج وإحالته إلى محاولة هازلة قوامها الكلام في وجه السيف والمدفع في هذا الزمان وفي كل زمان!

التالي السابق


الخدمات العلمية