صفحة جزء
وبعد بيان قواعد الصدقات، التي يرجع إليها التوزيع والتقسيم. ذلك البيان الذي يكشف عن جهل الذين يلمزون الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق سوء أدبهم حين يلمزون الرسول الأمين. بعد هذا يمضي السياق يعرض صنوف المنافقين، وما يقولون وما يفعلون:

ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون: هو أذن. قل: أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم. يحلفون بالله لكم ليرضوكم، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها. ذلك الخزي العظيم. يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. قل: استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولن: إنما كنا نخوض ونلعب. قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ..

إنه سوء الأدب في حق الرسول، يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات. إنهم يجدون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أدبا رفيعا في الاستماع إلى الناس بإقبال وسماحة; ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته; ويهش لهم ويفسح لهم من صدره. فيسمون هذا الأدب العظيم بغير اسمه، ويصفونه بغير حقيقته، ويقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "هو أذن" أي: سماع لكل قول، يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة، ولا يفطن إلى غش القول وزوره. من حلف له صدقه، ومن دس عليه قولا قبله.

يقولون هذا بعضهم لبعض تطمينا لأنفسهم أن يكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقة أمرهم، أو يفطن إلى نفاقهم: أو يقولونه طعنا على النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون [ ص: 1671 ] المنافقين وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين. وقد وردت الروايات بهذا وذلك في سبب نزول الآية. وكلاهما يدخل في عمومها. وكلاهما يقع من المنافقين.

ويأخذ القرآن الكريم كلامهم ليجعل منه ردا عليهم:

ويقولون: هو أذن ..

نعم.. ولكن:

قل: أذن خير لكم ..

أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم وفيه خيركم وصلاحكم. وأذن خير يستمع إليكم في أدب ولا يجبهكم بنفاقكم، ولا يرميكم بخداعكم، ولا يأخذكم بريائكم.

يؤمن بالله .

فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم.

ويؤمن للمؤمنين ..

فيطمئن إليهم ويثق بهم، لأنه يعلم منهم صدق الإيمان الذي يعصمهم من الكذب والالتواء والرياء.

ورحمة للذين آمنوا منكم ..

يأخذ بيدهم إلى الخير.

والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ..

من الله غيرة على الرسول أن يؤذى وهو رسول الله.

يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ..

يحلفون بالله لكم ليرضوكم على طريقة المنافقين في كل زمان، الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور، ثم يجبنون عن المواجهة، ويضعفون عن المصارحة، فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم.

والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ..

فماذا يكون الناس؟ وماذا تبلغ قوتهم؟ ولكن الذي لا يؤمن بالله عادة ولا يعنو له، يعنو لإنسان مثله ويخشاه; ولقد كان خيرا أن يعنو لله الذي يتساوى أمامه الجميع، ولا يذل من يخضع له، إنما يذل من يخضع لعباده، ولا يصغر من يخشاه، إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد الله.

ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها، ذلك الخزي العظيم .. سؤال للتأنيب والتوبيخ، فإنهم ليدعون الإيمان، ومن يؤمن يعلم أن حرب الله ورسوله كبرى الكبائر، وأن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد، وأن الخزي هو الجزاء المقابل للتمرد. فإذا كانوا قد آمنوا كما يدعون، فكيف لا يعلمون؟

إنهم يخشون عباد الله فيحلفون لهم ليرضوهم، ولينفوا ما بلغهم عنهم. فكيف لا يخشون خالق العباد، وهم يؤذون رسوله، ويحاربون دينه. فكأنما يحاربون الله، تعالى الله أن يقصده أحد بحرب! إنما هو تفظيع ما يرتكبون من إثم، وتجسيم ما يقارفون من خطيئة، وتخويف من يؤذون رسول الله، ويكيدون لدينه في الخفاء.

[ ص: 1672 ] وإنهم لأجبن من أن يواجهوا الرسول والذين معه، وإنهم ليخشون أن يكشف الله سترهم، وأن يطلع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نواياهم:

يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب. قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ..

إن النص عام في حذر المنافقين أن ينزل الله قرآنا يكشف خبيئتهم، ويتحدث عما في قلوبهم، فينكشف للناس ما يخبئونه. وقد وردت عدة روايات عن حوادث معينة في سبب نزول هذه الآيات.

قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء (يقصدون قراء القرآن) فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته; فقال:

يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ إلى قوله: كانوا مجرمين وإن رجليه لتسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متعلق بسيف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم.


وقال محمد بن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك; فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال.. إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأننا ننجوا أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني لعمار بن ياسر "أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا" فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي. فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوته إلى تبوك، وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "احبسوا على هؤلاء الركب" فأتاهم فقال: قلتم كذا. قلتم كذا. قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون.

إنما كنا نخوض ونلعب.. كأن هذه المسائل الكبرى التي يتصدون لها، وهي ذات صلة وثيقة بأصل العقيدة..


كأن هذه المسائل مما يخاض فيه ويلعب. قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ .

لذلك، لعظم الجريمة، يجبههم بأنهم قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إيمانهم الذي أظهروه، وينذرهم [ ص: 1673 ] بالعذاب، الذي إن تخلف عن بعضهم لمسارعته إلى التوبة وإلى الإيمان الصحيح، فإنه لن يصرف عن بعضهم الذي ظل على نفاقه واستهزائه بآيات الله ورسوله، وبعقيدته ودينه:

بأنهم كانوا مجرمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية