صفحة جزء
وقبيل ختام السورة التي تكلمت طويلا عن المنافقين، تجيء آيات تصور طريقة المنافقين في تلقي آيات الله وفي استقبال تكاليف هذه العقيدة التي يتظاهرون بها كاذبين; وإلى جانبها صورة الذين آمنوا وتلقيهم لهذا القرآن الكريم:

وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول: أيكم زادته هذه إيمانا؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؟ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا. صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ..

والسؤال في الآية الأولى:

أيكم زادته هذه إيمانا؟ ..

سؤال مريب، لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه. وإلا لتحدث عن آثارها في نفسه، بدل التساؤل عن غيره. وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك في أثرها في القلوب!

لذلك يجيء الجواب الحاسم ممن لا راد لما يقول:

[ ص: 1742 ] فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون .

فأما الذين آمنوا فقد أضيفت إلى دلائل الإيمان عندهم دلالة فزادتهم إيمانا; وقد خفقت قلوبهم بذكر ربهم خفقة فزادتهم إيمانا; وقد استشعروا عناية ربهم بهم في إنزال آياته عليهم فزادتهم إيمانا.. وأما الذين في قلوبهم مرض، الذين في قلوبهم رجس من النفاق، فزادتهم رجسا إلى رجسهم، وماتوا وهم كافرون..

وهو نبأ من الله صادق، وقضاء منه سبحانه محقق.

وقبل أن يعرض السياق الصورة الثانية لاستجابتهم يسأل مستنكرا حال هؤلاء المنافقين الذين لا يعظهم الابتلاء، ولا يردهم الامتحان:

أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؟ .

والفتنة كانت تكون بكشف سترهم، أو بنصر المسلمين بدونهم، أو بغيرهما من الصور، وكانت دائمة الوقوع كثيرة التكرار في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يزال المنافقون يفتنون ولا يتوبون!

فأما الصورة الحية أو المشهد المتحرك فترسمه الآية الأخيرة في شريط متحرك دقيق:

وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا. صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون! .

وإننا - حين نتلو الآية - لنستحضر مشهد هؤلاء المنافقين وقد نزلت سورة فإذا بعضهم ينظر إلى بعض ويغمز غمزة المريب:

هل يراكم من أحد؟ ..

ثم تلوح لهم غرة من المؤمنين وانشغال فإذا هم يتسللون على أطراف الأصابع في حذر:

ثم انصرفوا ..

تلاحقهم من العين التي لا تغفل ولا تنشغل دعوة قاصمة تناسب فعلتهم المريبة:

صرف الله قلوبهم! ..

صرفها عن الهدى فإنهم يستحقون أن يظلوا في ضلالهم يعمهون:

بأنهم قوم لا يفقهون ..

عطلوا قلوبهم عن وظيفتها فهم يستحقون!

إنه مشهد كامل حافل بالحركة ترسمه بضع كلمات، فإذا هو شاخص للعيون كأنها تراه!

وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان، وورد أنهما مدنيتان. ونحن نأخذ بهذا الأخير، ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم. آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم. ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق. والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى، فهو وليه وناصره وكافيه:

[ ص: 1743 ] لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم ..

ولم يقل: جاءكم رسول منكم. ولكن قال: "من أنفسكم" وهي أشد حساسية وأعمق صلة، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به. فهو بضعة من أنفسهم تتصل بهم صلة النفس بالنفس، وهي أعمق وأحس.

عزيز عليه ما عنتم ..

يشق عليه عنتكم ومشقتكم.

حريص عليكم ..

لا يلقي بكم في المهالك، ولا يدفع بكم إلى المهاوي; فإذا هو كلفكم الجهاد، وركوب الصعاب، فما ذلك من هوان بكم عليه، ولا بقسوة في قلبه وغلظة، إنما هي الرحمة في صورة من صورها. الرحمة بكم من الذل والهوان، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد المتقون.

ثم ينتقل الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرفه طريقه حين يتولى عنه من يتولى، ويصله بالقوة التي تحميه وتكفيه:

فإن تولوا فقل: حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم .

فإليه تنتهي القوة والملك والعظمة والجاه، وهو حسب من لاذ به وحسب من والاه.

إنه ختام سورة القتال والجهاد: الارتكان إلى الله وحده، والاعتماد على الله وحده، واستمداد القوة من الله وحده..

وهو رب العرش العظيم ..

وبعد فإن هذه السورة المحكمة تحتوي بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله - كما بينا في خلال عرضها وتقديمها - ومن ثم ينبغي أن يرجع إلى نصوصها الأخيرة بوصفها الكلمة الأخيرة في تلك العلاقات وأن يرجع إلى أحكامها بوصفها الأحكام النهائية المطلقة، حسبما تدل عليها نصوص السورة. كما ينبغي ألا تقيد هذه النصوص والأحكام النهائية بنصوص وأحكام وردت من قبل - وهي التي سميناها أحكاما مرحلية - مستندين في هذه التسمية: أولا وبالذات إلى ترتيب نزول الآيات. ومستندين أخيرا إلى سير الأحداث في الحركة الإسلامية، وإدراك طبيعة المنهج الإسلامي في هذه الحركة.. هذه الطبيعة التي بيناها في التقديم للسورة وفي ثناياها كذلك..

وهذا هو المنهج الذي لا يدركه إلا الذين يتحركون بهذا الدين حركة جهادية لتقرير وجوده في واقع الحياة برد الناس إلى ربوبية الله وحده، وإخراجهم من عبادة العباد!

إن هنالك مسافة شاسعة بين فقه الحركة، وفقه الأوراق! إن فقه الأوراق يغفل الحركة ومقتضياتها من حسابه، لأنه لا يزاولها ولا يتذوقها! أما فقه الحركة فيرى هذا الدين وهو يواجه الجاهلية، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، وموقفا موقفا. ويراه وهو يشرع أحكامه في مواجهة الواقع المتحرك، بحيث تجيء مكافئة لهذا الواقع وحاكمة عليه; ومتجددة بتجدده كذلك!

[ ص: 1744 ] وأخيرا فإن تلك الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة; إنما جاءت وواقع المجتمع المسلم، وواقع الجاهلية من حوله كذلك، كلاهما يحتم اتخاذ تلك الإجراءات وتنفيذ تلك الأحكام.. فأما حين كان واقع المجتمع المسلم وواقع الجاهلية من حوله يقتضي أحكاما أخرى.. مرحلية.. فقد جاءت في السور السابقة نصوص وأحكام مرحلية..

وحين يوجد المجتمع المسلم مرة أخرى ويتحرك; فإنه يكون في حل من تطبيق الأحكام المرحلية في حينها. ولكن عليه أن يعلم أنها أحكام مرحلية، وأن عليه أن يجاهد ليصل في النهاية إلى تطبيق الأحكام النهائية التي تحكم العلاقات النهائية بينه وبين سائر المجتمعات..

والله الموفق، والله المعين..

التالي السابق


الخدمات العلمية