صفحة جزء
[ ص: 1776 ] للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (27) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون (28) فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين (29) هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون (30) قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32) كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون (33) قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34) قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35) وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون (36) وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين (37) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة .مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (39) ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين (40) وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون (41) ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون (42) ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي [ ص: 1777 ] العمي ولو كانوا لا يبصرون (43) إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44) ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين (45) وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46) ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (47) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (49) قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون (50) أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون (51) ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون (52) ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين (53) ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب .وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (54) ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (55) هو يحيي ويميت وإليه ترجعون (56) يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (58) قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون (59) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (60) وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب [ ص: 1778 ] مبين (61) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64) ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم (65) ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66) هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (67) قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (68) قل إن الذين يفترون على .الله الكذب لا يفلحون (69) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (70)

هذا الدرس كله لمسات وجدانية متتابعة، تنتهي كلها إلى هدف واحد: مواجهة الفطرة البشرية بدلائل توحيد الله وصدق الرسول، واليقين باليوم الآخر. والعدل فيه.

لمسات وجدانية تأخذ النفس من أقطارها، وتأخذ بها إلى أقطار الكون في جولة واسعة شاملة. جولة من الأرض إلى السماء. ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس. ومن ماضي القرون إلى الحاضر القريب. ومن الدنيا إلى الآخرة.. في سياق..

وفي الدرس الماضي لمسات من هذه، وجولات من هذه.. ولكنها في هذا الدرس أظهر.. فمن معرض الحشر، إلى مشاهد الكون، إلى ذات النفس، إلى التحدي بالقرآن، إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين.

ومن ثم لمحة عابرة من الحشر في مشهد جديد إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب في صورة موحية للحس بالتوجس، إلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء إلى بعض آيات الله في الكون إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب..

إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة، لا تملك فطرة سليمة التلقي، صحيحة الاستجابة، ألا تستجيب لها، وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة، ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود..

لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم وهم يتناهون عن الاستماع إليه خيفة أن يجرفهم تأثيره ويزلزل قلوبهم! وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين!

للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. [ ص: 1779 ] والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة، ما لهم من الله من عاصم، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

..

كانت آخر آية في الدرس السابق: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .. فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين. ويكشف عن رحمة الله وفضله، وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء.

فأما الذين أحسنوا. أحسنوا الاعتقاد، وأحسنوا العمل، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم، وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام.. فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة:

للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ..

وهم ناجون من كربات يوم الحشر، ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق:

ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ..

والقتر: الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق. والذلة: الانكسار والمهانة أو الإهانة. فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة.. والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه، فالنجاة من هذا كله غنيمة، وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه..

أولئك .. أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق أصحاب الجنة وملاكها ورفاقها هم فيها خالدون .

والذين كسبوا السيئات ..

فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة! هؤلاء ينالهم عدل الله، فلا يضاعف لهم الجزاء، ولا يزاد عليهم السوء. ولكن:

جزاء سيئة بمثلها .. وترهقهم ذلة ..

تغشاهم وتركبهم وتكربهم.

ما لهم من الله من عاصم ..

يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم، نفاذا لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق، ويخالف الناموس..

ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب:

كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ..

كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعا غشيت بها هذه الوجوه! وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته، تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم..

أولئك .. المبعدون في هذا الظلام والقتام أصحاب النار .. ملاكها ورفاقها هم فيها خالدون .

ولكن أين الشركاء والشفعاء؟ وكيف لم يعصموهم من دون الله؟ هذه هي قصتهم في يوم الحشر العصيب:

ويوم نحشرهم جميعا، ثم نقول للذين أشركوا: مكانكم أنتم وشركاؤكم. فزيلنا بينهم. وقال شركاؤهم: [ ص: 1780 ] ما كنتم إيانا تعبدون. فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين.. هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت، وردوا إلى الله مولاهم الحق. وضل عنهم ما كانوا يفترون

..

هذه هي قصة الشفعاء والشركاء في مشهد من مشاهد القيامة، مشهد حي أبلغ من الإخبار المجرد بأن الشركاء والشفعاء لن يعصموا عبادهم من الله، ولن يملكوا لهم خلاصا ولا نجاة.

هؤلاء هم محشورون جميعا.. الكفار والشركاء.. وهم كانوا يزعمونهم شركاء لله، ولكن القرآن يسميهم " شركاءهم " تهكما من جهة، وإشارة إلى أنهم من صنعهم هم ولم يكونوا يوما شركاء لله.

هؤلاء هم جميعا كفارا وشركاء. يصدر إليهم الأمر:

مكانكم أنتم وشركاؤكم ..

قفوا حيث أنتم. ولا بد أن يكونوا قد تسمروا في أماكنهم! فالأمر يومئذ للنفاذ. ثم فرق بينهم وبين شركائهم وحجز بينهما في الموقف:

فزيلنا بينهم ..

وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن يتكلم الشركاء يتكلمون ليبرئوا أنفسهم من الجريمة. جريمة أن عبدهم هؤلاء الكفار مع الله، أو من دون الله، وإعلان أنهم لم يعلموا بعبادتهم إياهم ولم يشعروا، فهم إذن لم يشتركوا في الجناية، ويشهدون الله وحده على ما يقولون:

وقال شركاؤهم: ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ..

هؤلاء هم الشركاء الذين كانوا يعبدون. هؤلاء هم ضعاف يطلبون البراءة من إثم أتباعهم. ويجعلون الله وحده شهيدا، ويطلبون النجاة من إثم لم يشاركوا فيه!

عندئذ، وفي هذا الموقف المكشوف، تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل، وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة:

هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ..

وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع، وما عداه باطل:

وردوا إلى الله مولاهم الحق ..

وهنالك لا يجد المشركون شيئا من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم، فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود:

وضل عنهم ما كانوا يفترون ..

وهكذا يتجلى المشهد الحي في ساحة الحشر بكل حقائقه، وبكل وقائعه، وبكل مؤثراته واستجاباته.

تعرضه تلك الكلمات القلائل، فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد، ولا براهين الجدل الطويل!

التالي السابق


الخدمات العلمية