صفحة جزء
ومن هذا المشهد الخاطف ليوم الحشر، وما سبقه من أيام الحياة في الأرض إلى حديث مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شأن وعيد الله للمكذبين، ذلك الوعيد الغامض، لا يدرون إن كان سيعاجلهم غدا، أم إنهم سينظرون إلى يوم الدين، ليبقى مصلتا فوق رؤوسهم لعلهم يتقون ويهتدون.. وشيئا فشيئا تنتهي الجولة التي بدأت بالحديث عن الوعيد إلى نهايتها يوم لا ينفع الفداء ولو كان ما في الأرض كله، ويوم يقضي الله بالقسط لا يظلم أحدا.. وذلك على طريقة القرآن في وصل الدنيا بالآخرة، في كلمات ولحظات في تصوير حي يلمس القلوب، ويصور في الوقت ذاته حقيقة الاتصال بين الدارين والحياتين كما هما في الواقع، وكما ينبغي أن يكونا في التصور الإسلامي الصحيح:

وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم، ثم الله شهيد على ما يفعلون. ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون. ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل: لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، لكل أمة أجل، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قل أرأيتم: إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون. أثم إذا ما وقع آمنتم به؟ آلآن وقد كنتم به تستعجلون؟ ثم قيل للذين ظلموا: ذوقوا عذاب الخلد، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون. ويستنبئونك أحق هو؟ قل: إي وربي إنه لحق، وما أنتم بمعجزين. ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون .

تبدأ هذه الجولة بتقرير أن مرجع القوم إلى الله، سواء وقع بعض الوعيد الذي كلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغه لهم في حياته أو بعد وفاته. فالمرجع إلى الله في الحالين. وهو شهيد على ما يفعلون في حضور الرسول بالحياة، وفي غيبته بالوفاة. فلن يضيع شيء من أعمالهم ولن تعفيهم وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يوعدون.

وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم، ثم الله شهيد على ما يفعلون .. فالأمور مدبرة سائرة حسب التدبير، لا يخرم منها حرف، ولا يتغير بالطوارئ والظروف. ولكن كل قوم ينظرون حتى يجيء رسولهم، فينذرهم ويبين لهم، وبذلك يستوفون حقهم الذي فرضه الله على نفسه بألا يعذب قوما إلا بعد الرسالة، وبعد الإعذار لهم بالتبيين. وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول:

[ ص: 1797 ] ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ..

ونقف من هاتين الآيتين أمام حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية التي يرتكز عليها التصور الإسلامي كله وعناية المنهج القرآني بتوضيحها وتقريرها في كل مناسبة، وفي صور شتى متنوعة..

إنه يقال للرسول - صلى الله عليه وسلم - إن أمر هذه العقيدة، وأمر القوم الذين يخاطبون بها كله لله، وأن ليس لك من الأمر شيء. دورك فيها هو البلاغ، أما ما وراء ذلك فكله لله. وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك، فليس حتما على الله أن يريك عاقبتهم، وما ينزله بهم من جزاء.. هذا له وحده سبحانه! أما أنت - وكل رسول - فعليك البلاغ.. ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله.. ذلك كي يعلم العبيد مجالهم، وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة، ومهما تعرضوا فيها للعذاب!!

ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ ..

وقد كانوا يسألون في تحد واستعجال، طالبين وقوع ما يوعدهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من قضاء الله فيهم، كما قضى الله بين الأمم التي جاءتها رسلها فكذبت، فأخذ الله المكذبين: والجواب:

قل: لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، لكل أمة أجل، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ..

وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال. (وقد قدم ذكر الضر هنا، وإن كان مأمورا أن يتحدث عن نفسه، لأنهم هم يستعجلون الضر، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر. أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء).

قل: لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا.. إلا ما شاء الله.. .

فالأمر إذن لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه. وسنة الله لا تتخلف، وأجله الذي أجله لا يستعجل:

لكل أمة أجل، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ..

والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي. هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي. هلاك الهزيمة والضياع. وهو ما يقع للأمم، إما لفترة تعود بعدها للحياة، وإما دائما فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد.. وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل، لا مصادفة ولا جزافا ولا ظلما ولا محاباة. فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها. والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها. لا بمجرد الاعتقاد، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة. وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها، والشريعة التي أنزلها، والقيم التي قررها. وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله..

ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي، إلى موقف المهدد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار:

قل: أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا، ماذا يستعجل منه المجرمون؟ ..

فهذا العذاب المغيب الذي لا يعلم موقعه وموعده والذي قد يحل بياتا وأنتم نيام، أو نهارا وأنتم أيقاظ، [ ص: 1798 ] لا يجديكم في رده الصحو.. ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال.

وبينما هم في مفاجأة السؤال الذي ينقل مشاعرهم إلى تصور الخطر وتوقعه، تفجؤهم الآية التالية بوقوعه فعلا.. وهو لم يقع بعد.. ولكن التصور القرآني يرسمه واقعا، ويغمر به المشاعر، ويلمس به الوجدان:

أثم إذا ما وقع آمنتم به؟ آلآن وقد كنتم به تستعجلون؟! .

فكأنما قد وقع. وكأنما قد آمنوا به، وكأنما يخاطبون بهذا التبكيت في مشهد حاضر يشهدونه الآن! وتتمة المشهد الحاضر:

ثم قيل للذين ظلموا: ذوقوا عذاب الخلد. هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون؟ ..

وهكذا نجدنا مع السياق في ساحة الحساب والعذاب، وقد كنا منذ لحظات وفقرات في الدنيا نشهد خطاب الله لرسوله عن هذا المصير!!

وختام هذه الجولة، هو استنباء القوم للرسول: إن كان هذا الوعيد حقا. فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين. والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين:

ويستنبئونك: أحق هو؟ قل: إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ..

إي وربي ..

الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثا، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين..

إنه لحق وما أنتم بمعجزين ..

ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم، وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم، وأن يجازيكم.

وبينما نحن معهم على هذه الأرض في استنباء وجواب. إذا نحن فجأة - مع السياق في نقلة من نقلات الأسلوب القرآني المصور - في ساحة الحساب والجزاء. مبدئيا على وجه الفرض والتقدير.

ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ..

فلا يقبل منها حتى على فرض وجوده معها.

ولا تكتمل الآية حتى يكون الفرض قد وقع وقضى الأمر:

وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ..

أخذتهم وهلة المفاجأة فسقط في أيديهم، والتعبير يرسم للخيال صورة الكمد يظلل الوجوه، دون أن تنطق الشفاه!

وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ..

وانتهى المشهد الذي بدأ منذ نصف آية فرضا وانتهى واقعا على طريقة التصوير القرآني المؤثر المثير.

والتعقيب المؤكد للحشر والحساب، جولة أخرى مع القدرة في بعض مجاليها في السماء والأرض وفي الحياة والموت. جولة عابرة لتوكيد معنى القدرة الكفيلة بتحقق الوعد. ثم نداء عام للناس أجمعين للانتفاع بهذا القرآن الذي يحمل لهم الموعظة والهدى وشفاء الصدور.

[ ص: 1799 ] ألا إن لله ما في السماوات والأرض. ألا إن وعد الله حق، ولكن أكثرهم لا يعلمون. هو يحيي ويميت، وإليه ترجعون. يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. قل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ..

"ألا..." بهذا الإعلان المدوي. ألا إن لله ما في السماوات والأرض . والذي يملك ما في السماوات والأرض يملك أن يجعل وعده حقا فلا يعجزه عن تحقيقه معجز، ولا يعوقه عن تصديقه معوق:

ألا إن وعد الله حق .. ولكن أكثرهم لا يعلمون ..

وهم لجهلهم يشكون أو يكذبون.

هو يحيي ويميت ..

والذي يملك الحياة والموت، يملك الرجعة والحساب..

وإليه ترجعون .

إنه تعقيب سريع للتوكيد السريع بعد الاستعراض المثير.

ثم يعقبه النداء الجامع للبشرية جميعا:

يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين ..

جاءتكم في ذلك الكتاب الذي ترتابون فيه. جاءتكم الموعظة "من ربكم" فليس هو كتابا مفترى، وليس ما فيه من عند بشر. جاءتكم الموعظة لتحيي قلوبكم، وتشفي صدوركم من الخرافة التي تملؤها، والشك الذي يسيطر عليها، والزيغ الذي يمرضها، والقلق الذي يحيرها. جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسلام مع الإيمان. وهي لمن يرزق الإيمان هدى إلى الطريق الواصل، ورحمة من الضلال والعذاب:

قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون ...

فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان.. فبذلك وحده فليفرحوا. فهذا هو الذي يستحق الفرح. لا المال ولا أعراض هذه الحياة. إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة، ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبدا خاضعا لها. والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها. إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض. الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف. والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم.

عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو: سمعت أيفع بن عبد الله الكلاعي يقول: لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضي الله عنه - خرج عمر ومولى له، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل يقول: الحمد لله تعالى. ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: قل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون .

هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة. كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى. فأما المال، وأما الثراء، وأما النصر ذاته فهو تابع؛ لذلك كان النصر يأتيهم، وكان المال ينثال عليهم، وكان الثراء يطلبهم.. إن طريق هذه الأمة واضح. إنه في هذا الذي يسنه [ ص: 1800 ] لها قرآنها، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها.. هذا هو الطريق.

إن الأرزاق المادية، والقيم المادية، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض.. في الحياة الدنيا فضلا عن مكانهم في الحياة الأخرى.. إن الأرزاق المادية، والتيسيرات المادية، والقيم المادية، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية - لصا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة - كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة!

إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس، وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان.

إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم. هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء. كما يجعلها سببا للرقي الإنساني أو مزلقا للارتكاس!

ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله:

يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. قل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ..

ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا، فيقول عمر - رضي الله عنه - عن المال والأنعام: " ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: قل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ..

لقد كان عمر - رضي الله عنه - يفقه دينه. كان يعرف أن فضل الله ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله الله لهم: موعظة من ربهم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق!

لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين، من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها.. وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان.. بما فيها جاهلية القرن العشرين.

إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي أعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد، وتحريرهم من هذه العبودية، وتعبيدهم لله وحده، وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم، ويرفع قيمهم، ويرفع أخلاقهم. ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية..

ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية، والتمكين المادي، تبعا لهذا التحرر وهذا الانطلاق. كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة، وهي تكتسح الجاهليات حولها، وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض، وتقود البشرية إلى الله، لتستمتع معها بفضل الله..

والذين يركزون على القيم المادية، وعلى الإنتاج المادي، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان.

وهم لا يطلقونها دعوة بريئة; ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان - دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية - وتجعل لهم مطالب [ ص: 1801 ] أساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان!

وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية، والإنتاج المادي، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها.. وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة، وتعدها قيمة الحياة الكبرى; وتنسى في عاصفة الصياح المستمر.. الإنتاج.. الإنتاج.. كل القيم الروحية والأخلاقية; وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي.. هذا الصياح ليس بريئا; إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى; وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعا!

وعند ما يصبح الإنتاج المادي صنما يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام; فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك.. الأخلاق. الأسرة. الأعراض. الحريات. الضمانات...كلها.. كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس! فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه؟ إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجرا أو خشبا. فقد يكون قيمة واعتبارا ولافتة ولقبا!

إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلين في هداه الذي يشفي الصدور، ويحرر الرقاب، ويعلي من القيم الإنسانية في الإنسان. وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق الله الذي أعطاه للناس في الأرض وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي; وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح; وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض!

وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس; لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية، على حساب القيم الإنسانية العلوية.

وصدق الله العظيم:

يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين قل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ..

التالي السابق


الخدمات العلمية