صفحة جزء
لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس، ونزلت يونس بعد الإسراء. وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها; وهي من أخرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة. فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة; وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب - وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته، واستهزاء المشركين به، وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله - مع وحشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خديجة - رضي الله عنها - في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته; وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها; وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها.. وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية..

قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصائب بهلاك خديجة - وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها - وبهلاك عمه أبي طالب - وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه - وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.

قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال: لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك التراب، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لها: "لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك" قال: ويقول بين ذلك: "ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب" .

وقال المقريزي في إمتاع الأسماع: فعظمت المصيبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموتهما، وسماه "عام الحزن" وقال: "ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب" لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره.

ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها، وقبلهما سورة الإسراء وسورة الفرقان وكلها تحمل [ ص: 1841 ] طابع هذه الفترة; وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها .

وآثار هذه الفترة وجوها، وظلالها واضحة في جو السورة وظلالها وموضوعاتها! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين معه على الحق; والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في المجتمع الجاهلي.

وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها:

فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة الإسلامية في التاريخ البشري كله، من لدن نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام - وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة: هي الدينونة لله وحده بلا شريك، والعبودية له وحده بلا منازع; والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ. مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء; وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة; وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء.

ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .. أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو: ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير. وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير. إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ...

ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق.. لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهم: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه، إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلا الله، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم .. وإلى عاد أخاهم هودا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون. يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني، أفلا تعقلون؟ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم.. ولا تتولوا مجرمين .. وإلى ثمود أخاهم صالحا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان، إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ..

فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة..

ومن ذلك عرض مواقف الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وهم يتلقون الإعراض والتكذيب، والسخرية والاستهزاء، والتهديد والإيذاء، بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق، وفي نصر الله الذي لا شك آت; ثم تصديق العواقب في الدنيا - وفي الآخرة كذلك - لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم، بالتدمير على المكذبين، وبالنجاة للمؤمنين:

ففي قصة نوح نجد هذا المشهد: فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما نراك إلا بشرا مثلنا، وما نراك [ ص: 1842 ] اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين .. قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا، إن أجري إلا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا، إنهم ملاقو ربهم. ولكني أراكم قوما تجهلون. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم؟ أفلا تذكرون؟ ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول: إني ملك، ولا أقول للذين تزدري أعينكم: لن يؤتيهم الله خيرا، الله أعلم بما في أنفسهم، إني إذا لمن الظالمين. قالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال: إنما يأتيكم به الله - إن شاء - وما أنتم بمعجزين .. ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.

وفي قصة هود نجد هذا المشهد: قالوا: يا هود ما جئتنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول: إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.. قال: إني أشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ .. ثم تجيء العاقبة: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ. وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد. وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة، ألا إن عادا كفروا ربهم، ألا بعدا لعاد قوم هود! .

وفي قصة صالح نجد هذا المشهد: قالوا: يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب. قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير .. ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب: فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ، إن ربك هو القوي العزيز ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها، ألا إن ثمودا كفروا ربهم، ألا بعدا لثمود!

..

وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد: قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد! قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه، إن ربي رحيم ودود. قالوا: يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفا، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز. قال: يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا؟ إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب، وارتقبوا إني معكم رقيب .. ثم تجيء الخاتمة: ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا، وأخذت الذين ظلموا الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها، ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود! ..

ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دلالته: والتسرية [ ص: 1843 ] عنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله; وبما أولاهم الله من رعايته ونصره; وتوجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به.. وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة.

فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر، إن العاقبة للمتقين .

وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة: ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد .. ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وإنهم لفي شك منه مريب. وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم، إنه بما يعملون خبير. فاستقم كما أمرت ومن تاب معك، ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون. وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ... وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق، وموعظة وذكرى للمؤمنين. وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون. ولله غيب السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده، وتوكل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون ..

وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني؟ وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافئ للموقف; وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة، شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها; ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها، متوافيا مع أهدافها، مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية.

التالي السابق


الخدمات العلمية