صفحة جزء
فها هم أولاء عند أبيهم، يراودونه في اصطحاب يوسف معهم منذ الغداة. وهاهم أولاء يخادعون أباهم، ويمكرون به وبيوسف . فلنشهد ولنستمع لما يدور:

قالوا: يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف؟ وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب، وإنا له لحافظون. قال: إني ليحزنني أن تذهبوا به، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ..

والتعبير يرسم بكلماته وعباراته كل ما بذلوه ليتدسسوا به إلى قلب الوالد المتعلق بولده الصغير الحبيب، الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث لبركات أبيه إبراهيم ..

يا أبانا ..

بهذا اللفظ الموحي المذكر بما بينه وبينهم من آصرة.

ما لك لا تأمنا على يوسف؟ ..

سؤال فيه عتب وفيه استنكار خفي، وفيه استجاشة لنفي مدلوله من أبيهم، والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم يوسف. فهو كان يستبقي يوسف معه ولا يرسله مع إخوته إلى المراعي والجهات الخلوية التي يرتادونها لأنه يحبه ويخشى عليه ألا يحتمل الجو والجهد الذي يحتملونه وهم كبار، لا لأنه لا يأمنهم عليه. فمبادرتهم له بأنه لا يأتمنهم على أخيهم وهو أبوهم، مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر; ومن ثم يفقد إصراره على احتجاز يوسف . فهي مبادرة ماكرة منهم خبيثة!

ما لك لا تأمنا على يوسف؟ وإنا له لناصحون ..

قلوبنا له صافية لا يخالطها سوء - وكاد المريب أن يقول خذوني - فذكر النصح هنا وهو الصفاء والإخلاص يشي بما كانوا يحاولون إخفاءه من الدغل المريب..

أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ..

زيادة في التوكيد، وتصويرا لما ينتظر يوسف من النشاط والمسرة والرياضة، مما ينشط والده لإرساله معهم كما يريدون.

[ ص: 1975 ] وردا على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب ينفي - بطريق غير مباشر - أنه لا يأمنهم عليه، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب:

قال: إني ليحزنني أن تذهبوا به، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ..

إني ليحزنني أن تذهبوا به ..

إنني لا أطيق فراقه.. ولا بد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها. أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه ولو لبعض يوم، وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة.

وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ..

ولا بد أنهم وجدوا فيها عذرا كانوا يبحثون عنه، أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة، حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب!

واختاروا أسلوبا من الأساليب المؤثرة لنفي هذا الخاطر عنه:

قالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة، إنا إذا لخاسرون ..

لئن غلبنا الذئب عليه ونحن جماعة قوية هكذا فلا خير فينا لأنفسنا وإننا لخاسرون كل شيء، فلا نصلح لشيء أبدا!

وهكذا استسلم الوالد الحريص لهذا التوكيد ولذلك الإحراج.. ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضي مشيئته! والآن لقد ذهبوا به، وها هم أولاء ينفذون المؤامرة النكراء. والله سبحانه يلقي في روع الغلام أنها محنة وتنتهي، وأنه سيعيش وسيذكر إخوته بموقفهم هذا منه وهم لا يشعرون أنه هو:

فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب. وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ..

فقد استقر أمرهم جميعا على أن يجعلوه في غيابة الجب، حيث يغيب فيه عنهم. وفي لحظة الضيق والشدة التي كان يواجه فيها هذا الفزع، والموت منه قريب، ولا منقذ له ولا مغيث. وهو وحده صغير وهم عشرة أشداء. في هذه اللحظة اليائسة يلقي الله في روعه أنه ناج، وأنه سيعيش حتى يواجه إخوته بهذا الموقف الشنيع، وهم لا يشعرون بأن الذي يواجههم هو يوسف الذي تركوه في غيابة الجب وهو صغير.

وندع يوسف في محنته في غيابة الجب، يؤنسه ولا شك ما ألقى الله في روعه ويطمئنه، حتى يأذن الله بالفرج. ندعه لنشهد إخوته بعد الجريمة يواجهون الوالد المفجوع:

وجاءوا أباهم عشاء يبكون، قالوا: يا أبانا إنا ذهبنا نستبق، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب. وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاءوا على قميصه بدم كذب. قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون ..

لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس، [ ص: 1976 ] وهم ينفونها، ويكادون يتهكمون بها. فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان. فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب..

فعلوا هذا.

وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا: يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ..

ويحسون أنها مكشوفة، ويكاد المريب أن يقول خذوني، فيقولون:

وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ..

أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول.

وأدرك يعقوب من دلائل الحال، ومن نداء قلبه، أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما. وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، ويصفون له حالا لم تكن، فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه; وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب:

قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا. فصبر جميل. والله المستعان على ما تصفون .

ثم لنعد سريعا إلى يوسف في الجب، لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة:

وجاءت سيارة، فأرسلوا واردهم، فأدلى دلوه قال: يا بشرى. هذا غلام. وأسروه بضاعة، والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين ..

لقد كان الجب على طريق القوافل، التي تبحث عن الماء في مظانه، في الآبار وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة، ويكون في بعض الأحيان جافا كذلك:

وجاءت سيارة ..

أي قافلة سميت سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة ...

فأرسلوا واردهم ..

أي من يرد لهم الماء ويكون خبيرا بمواقعه..

فأدلى دلوه ..

لينظر الماء أو ليملأ الدلو - ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظا بالمفاجأة القصصية للقارئ والسامع - :

قال: يا بشرى! هذا غلام! ..

ومرة أخرى يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل، وحال يوسف ، وكيف ابتهج للنجاة، ليتحدث عن مصيره مع القافلة:

وأسروه بضاعة .. [ ص: 1977 ] أي اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقا. ولما لم يكن رقيقا فقد أسروه ليخفوه عن الأنظار. ثم باعوه بثمن قليل:

وشروه بثمن بخس دراهم معدودة .. وكانوا يتعاملون في القليل من الدراهم بالعد، وفي الكثير منها بالوزن..

وكانوا فيه من الزاهدين ..

لأنهم يريدون التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه..

وكانت هذه نهاية المحنة الأولى في حياة النبي الكريم.

التالي السابق


الخدمات العلمية