صفحة جزء
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا .

إنه النهي عن الشرك والتحذير من عاقبته، والأمر عام، ولكنه وجه إلى المفرد ليحس كل أحد أنه أمر خاص به، صادر إلى شخصه. فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته، والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن "يقعد" مذموما" بالفعلة الذميمة التي أقدم عليها، مخذولا لا ناصر له، ومن لا ينصره الله فهو مخذول وإن كثر ناصروه. ولفظ فتقعد يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد، ويلقي ظل الضعف، فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزا، وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان، لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير الوضع، فهو لفظ مقصود في هذا المكان.

[ ص: 2221 ] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ..

فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك. أمر في صورة قضاء. فهو أمر حتمي حتمية القضاء. ولفظة " قضى " تخلع على الأمر معنى التوكيد، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء ألا تعبدوا إلا إياه فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد.

فإذا وضعت القاعدة، وأقيم الأساس، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال.

والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة، هي رابطة الأسرة، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله، إعلانا لقيمة هذا البر عند الله:

وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما: أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل: ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا .

بهذه العبارات الندية، والصور الموحية، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء. ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام، إلى الذرية، إلى الناشئة الجديدة، إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء، إلى الأبوة، إلى الحياة المولية، إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات.

إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات. وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان!

فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام. إلى الزوجات والذرية.. وهكذا تندفع الحياة.

ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء. إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف!

وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.

ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال، وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:

إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما .. والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه. وكلمة عندك تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف.. فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب.. وقل لهما قولا كريما وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وهنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان. فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا، ولا يرفض أمرا. وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام [ ص: 2222 ] والاستسلام. وقل: ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا فهي الذكرى الحانية. ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان. وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب. وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء.

قال الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن بريدة عن أبيه: أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل أديت حقها؟ قال: لا. ولا بزفرة واحدة .

ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق، فإنه يعقب على ذلك يرجع الأمر كله لله الذي يعلم النوايا، ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال:

ربكم أعلم بما في نفوسكم، إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا .

وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل; وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطئ أو يقصر، ثم يرجع فيتوب من الخطإ والتقصير.

وما دام القلب صالحا، فإن باب المغفرة مفتوح. والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين.

ثم يمضي السياق بعد الوالدين إلى ذوي القربى أجمعين; ويصل بهم المساكين وابن السبيل، متوسعا في القرابات حتى تشمل الروابط الإنسانية بمعناها الكبير:

وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها، فقل لهم قولا ميسورا .

والقرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق. فليس هو تفضلا من أحد على أحد; إنما هو الحق الذي فرضه الله، ووصله بعبادته وتوحيده. الحق الذي يؤديه المكلف فيبرئ ذمته، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه، وإن هو إلا مؤد ما عليه لله.

وينهى القرآن عن التبذير. والتبذير - كما يفسره ابن مسعود وابن عباس - الإنفاق في غير حق. وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا .

فليست هي الكثرة والقلة في الإنفاق. إنما هو موضع الإنفاق. ومن ثم كان المبذرون إخوان الشياطين، لأنهم ينفقون في الباطل، وينفقون في الشر، وينفقون في المعصية. فهم رفقاء الشياطين وصحابهم وكان الشيطان لربه كفورا لا يؤدي حق النعمة، كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة، وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق، غير متجاوزين ولا مبذرين.

فإذا لم يجد إنسان ما يؤدي به حق ذوي القربى والمساكين وابن السبيل واستحيا أن يواجههم، وتوجه إلى الله يرجو أن يرزقه ويرزقهم، فليعدهم إلى ميسرة، وليقل لهم قولا لينا، فلا يضيق بهم صدره، ولا يسكت ويدعهم فيحسوا بالضيق في سكوته، ففي القول الميسور عوض وأمل وتجمل.

وبمناسبة التبذير والنهي عنه يأمر بالتوسط في الإنفاق كافة:

ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ..

[ ص: 2223 ] والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي، والغلو كالتفريط يخل بالتوازن. والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير; فيرسم البخل يدا مغلولة إلى العنق، ويرسم الإسراف يدا مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئا، ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور. والحسير في اللغة: الدابة تعجز عن السير فتقف ضعفا وعجزا. فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف. وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير. ملوما في الحالتين على البخل وعلى السرف، وخير الأمور الوسط.

ثم يعقب على الأمر بالتوسط بأن الرازق هو الله. هو الذي يبسط في الرزق ويوسع، وهو الذي يقدر في الرزق ويضيق. ومعطي الرزق هو الآمر بالتوسط في الإنفاق:

إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا .

يبسط الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر، ويقدر الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر. ويأمر بالقصد والاعتدال، وينهى عن البخل والسرف، وهو الخبير البصير بالأقوم في جميع الأحوال; وقد أنزل هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع الأحوال.

التالي السابق


الخدمات العلمية