صفحة جزء
وينتهي السياق في استعراض دلائل القدرة ودقة الناموس بالانتقال من الكون إلى النفس; وعرض سنن الحياة والموت في عالم الإنسان:

وهو الذي أحياكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم، إن الإنسان لكفور ..

والحياة الأولى معجزة، تتجدد في كل حياة تنشأ آناء الليل وأطراف النهار. وسرها اللطيف ما يزال غيبا يحار العقل البشري في تصور كنهه.. وفيه مجال فسيح للتأمل والتدبر..

والموت سر آخر يعجز العقل البشري عن تصور كنهه، وهو يتم في لحظة خاطفة، والمسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة عريضة ضخمة.. وفيه مجال فسيح للتأمل والتدبر..

والحياة بعد الموت - وهي غيب من الغيب، ولكن دليله حاضر من النشأة الأولى.. وفيه مجال كذلك للتأمل والتدبر..

ولكن هذا الإنسان لا يتأمل ولا يتدبر هذه الدلائل والأسرار: إن الإنسان لكفور ..

والسياق يستعرض هذه الدلائل كلها، ويوجه القلوب إليها في معرض التوكيد لنصرة الله لمن يقع عليه [ ص: 2442 ] البغي وهو يرد عن نفسه العدوان. وذلك على طريقة القرآن في استخدام المشاهد الكونية لاستجاشة القلوب، وفي ربط سنن الحق والعدل في الخلق بسنن الكون ونواميس الوجود..

وحين يصل السياق إلى هذا المقطع الفاصل من عرض دلائل القدرة في مشاهد الكون الكبرى يتوجه بالخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليمضي في طريقه، غير ملتفت إلى المشركين وجدالهم له; فلا يمكنهم من نزاعه في منهجه الذي اختاره الله له، وكلفه تبليغه وسلوكه.

لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه، فلا ينازعنك في الأمر، وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. وإن جادلوك فقل: الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون. ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض؟ إن ذلك في كتاب. إن ذلك على الله يسير ..

إن لكل أمة منهجا وطريقة في الحياة والتفكير والسلوك والاعتقاد. هذا المنهج خاضع لسنن الله في تصريف الطبائع والقلوب وفق المؤثرات والاستجابات. وهي سنن ثابتة مطردة دقيقة. فالأمة التي تفتح قلوبها لدواعي الهدى ودلائله في الكون والنفس هي أمة مهتدية إلى الله بالاهتداء إلى نواميسه المؤدية إلى معرفته وطاعته. والأمة التي تغلق قلوبها دون تلك الدواعي والدلائل أمة ضالة تزداد ضلالا كلما زادت إعراضا عن الهدى ودواعيه..

وهكذا جعل الله لكل أمة منسكا هم ناسكوه، ومنهجا هم سالكوه.. فلا داعي إذن لأن يشغل الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه بمجادلة المشركين، وهم يصدون أنفسهم عن منسك الهدى، ويمعنون في منسك الضلال. والله يأمره ألا يدع لهم فرصة لينازعوه أمره، ويجادلوه في منهجه. كما يأمره أن يمضي على منهجه لا يتلفت ولا ينشغل بجدل المجادلين. فهو منهج مستقيم: وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ..

فليطمئن إذن على استقامة منهجه. واستقامته هو على الهدى في الطريق.. فإن تعرض القوم لجداله فليختصر القول. فلا ضرورة لإضاعة الوقت والجهد:

وإن جادلوك فقل: الله أعلم بما تعملون ..

فإنما يجدي الجدل مع القلوب المستعدة للهدى التي تطلب المعرفة وتبحث حقيقة عن الدليل. لا مع القلوب المصرة على الضلال المكابرة التي لا تحفل كل هذا الحشد من الدواعي والدلائل في الأنفس والآفاق وهي كثيرة معروضة للأنظار والقلوب.. فليكلهم إلى الله. فهو الذي يحكم بين المناسك والمناهج وأتباعها الحكم الفاصل الأخير:

الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ..

وهو الحكم الذي لا يجادل فيه أحد، لأنه لا جدال في ذلك اليوم، ولا نزاع في الحكم الأخير!

والله يحكم بعلم كامل، لا يند عنه سبب ولا دليل، ولا تخفى عليه خافية في العمل والشعور. وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض كله; ومن ضمنه عملهم ونياتهم وهو بها محيط:

ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض. إن ذلك في كتاب. إن ذلك على الله يسير . وعلم الله الكامل الدقيق لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض، ولا يتأثر بالمؤثرات التي تنسى وتمحو. فهو كتاب يضم علم كل شيء ويحتويه.

[ ص: 2443 ] وإن العقل البشري ليصيبه الكلال، وهو يتأمل - مجرد تأمل - بعض ما في السماء والأرض، ويتصور إحاطة علم الله بكل هذا الحشد من الأشياء والأشخاص، والأعمال والنيات والخواطر والحركات، في عالم المنظور وعالم الضمير. ولكن هذا كله، بالقياس إلى قدرة الله وعلمه شيء يسير: إن ذلك على الله يسير .. وبعد أن يأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يدع للمشركين فرصة لمنازعته في منهجه المستقيم، يكشف عما في منهج المشركين من عوج، وعما فيه من ضعف، وعما فيه من جهل وظلم للحق; ويقرر أنهم محرومون من عونه تعالى ونصرته. وهم بذلك محرومون من النصير:

ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، وما ليس لهم به علم. وما للظالمين من نصير .

وما لوضع ولا لشرع من قوة إلا أن يستمد قوته من الله. فما لم ينزل به الله من عنده قوة، هو ضعيف هزيل، خلو من عنصر القوة الأصيل.

وهؤلاء إنما يعبدون آلهة من الأصنام والأوثان، أو من الناس أو الشيطان.. وهذه كلها لم ينزل الله بها قوة من عنده، فهي محرومة من القوة. وهم لا يعبدونها عن علم ولا دليل يقتنعون به، إنما هو الوهم والخرافة. وما لهم من نصير يلجؤون إليه وقد حرموا من نصرة الله العزيز القدير.

وأعجب شيء أنهم وهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، وما ليس لهم به علم. لا يستمعون لدعوة الحق، ولا يتلقون الحديث عنها بالقبول. إنما تأخذهم العزة بالإثم، ويكادون يبطشون بمن يتلون عليهم كلام الله: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ..

إنهم لا يناهضون الحجة بالحجة، ولا يقرعون الدليل بالدليل إنما هم يلجؤون إلى العنف والبطش عند ما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل. وذلك شأن الطغاة دائما يشتجر في نفوسهم العتو، وتهيج فيهم روح البطش، ولا يستمعون إلى كلمة الحق لأنهم يدركون أن ليس لهم ما يدفعون به هذه الكلمة إلا العنف والغليظ!

ومن ثم يواجههم القرآن الكريم بالتهديد والوعيد: قل: أفأنبئكم بشر من ذلكم؟ بشر من ذلكم المنكر الذي تنطوون عليه، ومن ذلك البطش الذي تهمون به.. النار .. وهي الرد المناسب للبطش والمنكر وبئس المصير ..

ثم يعلن في الآفاق، على الناس جميعا، إعلانا مدويا عاما.. يعلن عن ضعف الآلهة المدعاة; الآلهة كلها التي يتخذها الناس من دون الله. ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها أولئك الظالمون، ويركن إليها أولئك الغاشمون. يعلن عن هذا الضعف في صورة مثل معروض للأسماع والأبصار، مصور في مشهد شاخص متحرك، تتملاه العيون والقلوب.. مشهد يرسم الضعف المزري ويمثله أبرع تمثيل:

يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ..

إنه النداء العام، والنفير البعيد الصدى: يا أيها الناس .. فإذا تجمع الناس على النداء أعلنوا أنهم أمام مثل عام يضرب، لا حالة خاصة ولا مناسبة حاضرة: ضرب مثل فاستمعوا له .. هذا المثل يضع قاعدة، ويقرر حقيقة. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له .. كل من تدعون [ ص: 2444 ] من دون الله من آلهة مدعاة. من أصنام وأوثان، ومن أشخاص وقيم وأوضاع، تستنصرون بها من دون الله، وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه.. كلهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له .. والذباب صغير حقير; ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون - ولو اجتمعوا وتساندوا - على خلق هذا الذباب الصغير الحقير!

وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل. لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة. فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل.. ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير. وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب!

ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري: وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه .. والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه، سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا! وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس فلا يملكون رده. وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير. وهو في الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلى النفائس: يسلب العيون والجوارح، وقد يسلب الحياة والأرواح.. إنه يحمل ميكروب السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد.. ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير!.

وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز.. ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها ... لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف. والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب!

ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب: ضعف الطالب والمطلوب . ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب!

وفي أنسب الظروف.. والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار لضعف الآلهة المدعاة يندد بسوء تقديرهم لله، ويعرض قوة الله الحق الحقيق بأنه إله:

ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز ..

ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به تلك الآلهة الكليلة العاجزة التي لا تخلق ذبابا ولو تجمعت له. بل لا تستنقذ ما يسلبها الذباب إياه!

ما قدروا الله حق قدره، وهم يرون آثار قدرته، وبدائع مخلوقاته، ثم يشركون به من لا يستطيعون خلق الذباب الحقير!

ما قدروا الله حق قدره، وهم يستعينون بتلك الآلهة العاجزة الكليلة عن استنقاذ ما يسلبها إياه الذباب، ويدعون الله القوي العزيز..

إنه تقرير وتقريع في أشد المواقف مناسبة للخشوع والخضوع!

وهنا يذكر أن الله القوي العزيز يختار رسله من الملائكة إلى الأنبياء. ويختار رسله من البشر إلى الناس. وذلك عن علم وخبرة وقدرة:

[ ص: 2445 ] الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس. إن الله سميع بصير. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. وإلى الله ترجع الأمور .

فعن صاحب القوة العزيز الجناب يصدر الاختيار للملائكة والرسل. ومن لدن القوي العزيز جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - جاء بسلطان من عند القوي العزيز الذي اختاره واصطفاه. فأنى يقف له من يركنون إلى تلك الآلهة العاجزة الضعيفة المزدراة؟!

إن الله سميع بصير .. فهو يسمع ويرى فيعلم يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم علما شاملا كاملا، لا يند عنه حاضر ولا غائب، ولا قريب ولا بعيد.

وإلى الله ترجع الأمور .. فهو الحكم الأخير، وله السيطرة والتدبير.

التالي السابق


الخدمات العلمية