صفحة جزء
ومن دلائل الإيمان في الأنفس ينتقل إلى دلائل الإيمان في الآفاق. مما يشهده الناس ويعرفونه، ثم يمرون عليه غافلين:

ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق، وما كنا عن الخلق غافلين. وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون. فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة، ومنها تأكلون. وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة، ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون ..

إن السياق يمضي في استعراض هذه الدلائل، وهو يربط بينها جميعا. يربط بينها بوصفها من دلائل القدرة; ويربط بينها كذلك بوصفها من دلائل التدبير; فهي متناسقة في تكوينها، متناسقة في وظائفها، متناسقة في اتجاهها. كلها محكومة بناموس واحد; وكلها تتعاون في وظائفها; وكلها محسوب فيها لهذا الإنسان الذي كرمه الله حساب.

[ ص: 2461 ] ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة الإنسانية في سياق السورة.

ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ..

والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض. أو وراء بعض. وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية. أو سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية. أو سبع كتل سديمية. والسدم - كما يقول الفلكيون - هي التي تكون منها المجموعات النجمية.. وعلى أية حال فهي سبع خلائق فلكية فوق البشر - أي إن مستواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء - خلقها الله بتدبير وحكمة، وحفظها بناموس ملحوظ: وما كنا عن الخلق غافلين ..

وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ..

وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالأرض. فالماء نازل من السماء; وله علاقة بتلك الأفلاك. فتكوين الكون على نظامه هذا، هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء، ويسمح كذلك بإسكانه في الأرض.

ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية الآتية من المطر; وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هناك.. نظرية حديثة. فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية. ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلاث مائة عام.

وأنزلنا من السماء ماء بقدر .. بحكمة وتدبير، لا أكثر فيغرق ويفسد; ولا أقل فيكون الجدب والمحل; ولا في غير أوانه فيذهب بددا بلا فائدة..

فأسكناه في الأرض .. وما أشبهه وهو مستكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم.

في قرار مكين .. كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة.. وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير..

وإنا على ذهاب به لقادرون .. فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي استقر عليها فحفظته. أو بغير هذا من الأسباب. فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته. إنما هو فضل الله على الناس ونعمته.

و من الماء تنشأ الحياة:

فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ..

والنخيل والأعناب نموذجان من الحياة التي تنشأ بالماء في عالم النبات - كما ينشأ الناس من ماء النطفة في عالم الإنسان - نموذجان قريبان لتصور المخاطبين إذ ذاك بالقرآن، يشيران إلى نظائرهما الكثيرة التي تحيا بالماء. ويخصص من الأنواع الأخرى شجرة الزيتون:

وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ..

وهي من أكثر الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها. وأقرب منابتها من بلاد العرب طور سيناء. عند الوادي المقدس المذكور في القرآن. لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص. وهي تنبت هناك من الماء الذي [ ص: 2462 ] أسكن في الأرض وعليه تعيش.

ويعرج من عالم النبات إلى عالم الحيوان:

وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة، ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ..

فهذه المخلوقات المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره، وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير.. فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير; ويتدبر ما وراءها من حكمة ومن تقدير; ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها; فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله; فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف.

ولكم فيها منافع كثيرة .. يجملها أولا، ثم يخصص منها منفعتين: ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون .. وقد أحل للإنسان أكل الأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ولم يحل له تعذيبها ولا التمثيل بها، لأن الأكل يحقق فائدة ضرورية في نظام الحياة. فأما التعذيب والتمثيل فهما من قسوة القلب، وفساد الفطرة. وليس وراءهما فائدة للأحياء.

ويربط السياق بين حمل الإنسان على الأنعام وحمله على الفلك. بوصفهما مسخرين بنظام الله الكوني، الذي ينظم وظائف الخلائق جميعا، كما ينسق بين وجودها جميعا. فهذا التكوين الخاص للماء، والتكوين الخاص للسفن، والتكوين الخاص لطبيعة الهواء فوق الماء والسفن.. هو الذي يسمح للفلك أن تطفو فوق سطح الماء. ولو اختل تركيب واحد من الثلاثة أو اختلف أدنى اختلاف ما أمكن أن تتم الملاحة التي عرفتها البشرية قديما، وما تزال تعتمد عليها جل الاعتماد.

وكل هذا من دلائل الإيمان الكونية، لمن يتدبرها تدبر الفهم والإدراك. وكلها ذات صلة بالمقطع الأول في السورة والمقطع الثاني، متناسقة معهما في السياق..

التالي السابق


الخدمات العلمية