صفحة جزء
وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف، يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته; وهو يتناول بيت النبوة الطاهر الكريم، وعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرم إنسان على الله، وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرض رجل من الصحابة - صفوان بن المعطل رضي الله عنه - يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا.. وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان..

ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع:

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم. لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم. لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وقالوا: هذا إفك مبين. لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم. إذ تلقونه بألسنتكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. ولولا إذ سمعتموه قلتم: ما يكون [ ص: 2495 ] لنا أن نتكلم بهذا. سبحانك! هذا بهتان عظيم. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين. ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم. إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم. يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم. ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله. وليعفوا وليصفحوا. ألا تحبون أن يغفر الله لكم. والله غفور رحيم. إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين. الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات، أولئك مبرءون مما يقولون، لهم مغفرة ورزق كريم ..

هذا الحادث. حادث الإفك. قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق; وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل; وعلق قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل.. شهرا كاملا. علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق.

فلندع عائشة - رضي الله عنها - تروي قصة هذا الألم، وتكشف عن سر هذه الآيات:

عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه; وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودج، وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل; فقمت حين آذنوا بالرحيل، حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه; وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أني فيه; وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم; وإنما نأكل العلقة من الطعام; فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه; وكنت جارية حديثة السن; فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي، بعد ما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس فيه أحد منهم، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي; فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي. ثم الذكواني. قد عرس وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي; فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني. وكان يراني قبل الحجاب. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي; والله ما يكلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه; وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، بعد ما نزلوا معرسين. قالت: فهلك في شأني من هلك. وكان الذي تولى كبر [ ص: 2496 ] الإثم عبد الله بن أبي بن سلول; فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرا; والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر. وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط. فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي. فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: بئسما قلت. أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ فقالت: يا هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتي أبوي. وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي، فأتيت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. فقلت: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم. فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تخبرك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: أي بريرة . هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . فقال وهو على المنبر: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا. ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي. قالت: فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه. إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية. فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت - لعمر الله - لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان - الأوس [ ص: 2497 ] والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها، فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس، ثم قال: "أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه". فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة. فقلت لأبي: أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن. فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به، واستقر في نفوسكم، وصدقتم به. فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقنني. فوالله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون". ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى; ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى; ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، فسري عنه، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك. فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي. فأنزل الله تعالى: " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ... العشر الآيات" فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة.. إلى قوله: والله غفور رحيم فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: "يا زينب . ما علمت وما رأيت؟" فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا. وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله تعالى بالورع. قالت: فطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.

[ ص: 2498 ] وهكذا عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته. وعاش أبو بكر - رضي الله عنه - وأهل بيته. وعاش صفوان بن المعطل. وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق، وفي ظل تلك الآلام الهائلة، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات.

وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة. وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة. تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيفة.

فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة. ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها، ونظافة تصوراتها. ها هي ذي ترمى في أعز ما تعتز به. ترمى في شرفها. وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع. وترمى في أمانتها. وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم . وترمى في وفائها. وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير.. ثم ترمى في إيمانها. وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة. وهي زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

ها هي ذي ترمى، وهي بريئة غارة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئا; فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا، تبرئها مما رميت به. ولكن الوحي يتلبث، لحكمة يريدها الله، شهرا كاملا; وهي في مثل هذا العذاب.

ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبإ من أم مسطح . وهي مهدودة من المرض، فتعاودها الحمى; وهي تقول لأمها في أسى: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي رواية أخرى تسأل: وقد علم به أبي؟ فتجيب أمها: نعم! فتقول: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ - فتجيبها أمها كذلك: نعم!

ويا لله لها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه، يقول لها: "أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا; فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه".. فتعلم أنه شاك فيها، لا يستيقن من طهارتها، ولا يقضي في تهمتها. وربه لم يخبره بعد، ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها; فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها، وأحلها في سويدائه!

وها هو ذا أبو بكر الصديق - في وقاره وحساسيته وطيب نفسه - يلذعه الألم، وهو يرمى في عرضه. في ابنته زوج محمد - صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل، لا يطلب دليلا من خارجه.. وإذا الألم يفيض على لسانه، وهو الصابر المحتسب القوي على الألم، فيقول: والله ما رمينا بهذا في جاهلية. أفنرضى به في الإسلام؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل. حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة: أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مرارة هامدة: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم!

وأم رومان - زوج الصديق رضي الله عنهما - وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء. المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها. فتقول لها: يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.. ولكن هذا التماسك يتزايل وعائشة تقول لها: أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول كما قال زوجها من قبل: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم!

[ ص: 2499 ] والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل. وهو يرمى بخيانة نبيه في زوجه. فيرمى بذلك في إسلامه، وفي أمانته، وفي شرفه، وفي حميته. وفي كل ما يعتز به صحابي، وهو من ذلك كله بريء. وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره، فيقول: سبحان الله! والله ما كشفت كتف أنثى قط. ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به. ودافعه إلى رفع سيفه على امرئ مسلم، وهو منهي عنه، أن الألم قد تجاوز طاقته، فلم يملك زمام نفسه الجريح!

ثم ها هو ذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رسول الله، وهو في الذروة من بني هاشم .. ها هو ذا يرمى في بيته. وفي من؟ في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوجة والحبيبة. وها هو ذا يرمى في طهارة فراشه، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة. وها هو ذا يرمى في صيانة حرمته، وهو القائم على الحرمات في أمته. وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له، وهو الرسول المعصوم من كل سوء.

ها هو ذا - صلى الله عليه وسلم - يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة - رضي الله عنها - يرمى في فراشه وعرضه، وقلبه ورسالته. يرمى في كل ما يعتز به عربي، وكل ما يعتز به نبي.. ها هو ذا يرمى في هذا كله; ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كاملا، فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا. والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهرا كاملا لا يبين فيه بيانا. ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم. يعاني من العار، ويعاني فجيعة القلب; ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة. الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق.. والشك يعمل في قلبه - مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله، ولكنه لا يطمئن نهائيا إلى هذه القرائن - والفرية تفوح في المدينة، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك; فلا يملك أن يطرد الشك. لأنه في النهاية بشر، ينفعل في هذا انفعالات البشر. وزوج لا يطيق أن يمس فراشه. ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم.

وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده، فيبعث إلى أسامة بن زيد . حبه القريب إلى قلبه.. ويبعث إلى علي بن أبي طالب . ابن عمه وسنده. يستشيرهما في خاصة أمره. فأما علي فهو من عصب محمد، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب. ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد ، ابن عمه وكافله. فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه. ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويستقر على قرار. وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الود لأهله، والتعب لخاطر الفراق، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين، وكذب المفترين الأفاكين.

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لهفة الإنسان، وفي قلق الإنسان، يستمد من حديث أسامة ، ومن شهادة الجارية مددا وقوة يواجه بهما القوم في المسجد، فيستعذر ممن نالوا عرضه، ورموا أهله، ورموا رجلا من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء.. فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور - وهم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة، وقد خدشت قداسة القيادة، ويحز هذا في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس; ويطلب منها هي البيان الشافي المريح!

وعند ما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقة [ ص: 2500 ] الطاهرة وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع; ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم.

ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل: "وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله –تعالى - في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله –تعالى - بها"..

ولكن الأمر - كما يبدو من ذلك الاستعراض - لم يكن أمر عائشة - رضي الله عنها - ولا قاصرا على شخصها، فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووظيفته في الجماعة يومها؛ بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها، وما كان حديث الإفك رمية ل عائشة وحدها، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها..من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة، ويرد المكيدة المدبرة، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام; ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله; وما يعلمها إلا الله:

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم. لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم. لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم. والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .

فهم ليسوا فردا ولا أفرادا; إنما هم "عصبة" متجمعة ذات هدف واحد.ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك، إنما هو الذي تولى معظمه، وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة; فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية، وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة، ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش; وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة، وعلى رأسها ابن سلول، الحذر الماكر، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة، ولم يقل علانية ما يؤخذ به، فيقاد إلى الحد، إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم، ولا يشهدون عليه، وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها!

وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم.

ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد:

لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ..

خير. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله; ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات؛ فهي عندئذ لا تقف عند حد؛ إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء.

وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة - بهذه المناسبة - عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم.

أما الآلام التي عاناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمن [ ص: 2501 ] التجربة، وضريبة الابتلاء، الواجبة الأداء!

أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم .. ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله؛ وبئس ما اكتسبوه، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى: والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم.

والذي تولى كبره، وقاد حملته، واضطلع منه بالنصيب الأوفى، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وحامل لواء الكيد. ولقد عرف كيف يختار مقتلا، لولا أن الله كان من ورائه محيطا، وكان لدينه حافظا، ولرسوله عاصما، وللجماعة المسلمة راعيا، ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال: من هذه؟ فقالوا: عائشة - رضي الله عنها - فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت; ثم جاء يقودها!

وهي قولة خبيثة راح يذيعها - عن طريق عصبة النفاق - بوسائل ملتوية، بلغ من خبثها أن تموج المدينة بالفرية التي لا تصدق، والتي تكذبها القرائن كلها، وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين، وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهرا كاملا، وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى.

وإن الإنسان ليدهش - حتى اليوم - كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك، وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق.

لقد كانت معركة خاضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك، وخاضها الإسلام، معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج منها منتصرا كاظما لآلامه الكبار، محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره؛ فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله، والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته، والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه.

ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه; ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه، والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها:

لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وقالوا: هذا إفك مبين ..

نعم كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة، وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم، فظن الخير بهما أولى.فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا، كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته - رضي الله عنهما - كما روى الإمام محمد ابن إسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة - رضي الله عنها؟ - قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك. ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: "الكشاف" أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوءا؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة - رضي الله عنها - [ ص: 2502 ] ما خنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعائشة خير مني، وصفوان خير منك.

وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة ، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!

هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور - خطوة الدليل الباطني الوجداني - فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي:

لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون .. وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة; وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بينة; وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل: لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء! وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن، كاذبون عند الله الذي لا يبدل القول لديه، والذي لا يتغير حكمه، ولا يتبدل قراره. فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها، ولا نجاة لهم من عقباها.

هاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير، وخطوة التثبت بالبينة والدليل، غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك; وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمر عظيم لولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم، فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الأليم:

ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ..

لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درسا قاسيا، فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه وعذابه، فهي فعلة تستحق العذاب العظيم، العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيرا، والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع; ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة، والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل حافل بالقلق والقلقلة والحيرة بلا يقين! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة، ورحمته شملت المخطئين، بعد الدرس الأليم.

والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام واختلت فيها المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول:

إذ تلقونه بألسنتكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم ..

وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام:

إذ تلقونه بألسنتكم .. لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إمعان نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرءوس، ولا تتدبره القلوب! وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم .. بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم، إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول.. وتحسبونه هينا أن تقذفوا عرض رسول الله، وأن تدعوا الألم [ ص: 2503 ] يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله; وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في الجاهلية; وأن تتهموا صحابيا مجاهدا في سبيل الله، وأن تمسوا عصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلته بربه، ورعاية الله له.. وتحسبونه هينا .. وهو عند الله عظيم .. وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء.

ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، وأن تتحرج من مجرد النطق به، وأن تنكر أن يكون هذا موضوعا للحديث; وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا; وأن تقذف بهذا الإفك بعيدا عن ذلك الجو الطاهر الكريم:

ولولا إذ سمعتموه قلتم: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا. سبحانك! هذا بهتان عظيم ..

وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزا; وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت، عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم:

يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ..

يعظكم .. في أسلوب التربية المؤثر، في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار، مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان: يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا .. ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة: إن كنتم مؤمنين . فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف، وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون:

ويبين الله لكم الآيات .. على مثال ما بين في حديث الإفك، وكشف عما وراءه من كيد; وما وقع فيه من خطايا وأخطاء: والله عليم حكيم يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف; ويعلم مداخل القلوب، ومسارب النفوس. وهو حكيم في علاجها، وتدبير أمرها، ووضع النظم والحدود التي تصلح بها..

التالي السابق


الخدمات العلمية