صفحة جزء
ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون، وإلى خفايا النفس البشرية، وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن، وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال.

ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العام للشعراء :

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا ..

فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العام؛ هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة، واستقامت حياتهم على منهج؛ وعملوا الصالحات فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخير الجميل، ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام، وانتصروا من بعد ما ظلموا فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقتهم ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه.

ومن هؤلاء الشعراء الذين نافحوا عن العقيدة وصاحبها في إبان المعركة مع الشرك والمشركين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - من شعراء الأنصار، ومنهم عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كانا يهجوان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جاهليتهما، فلما أسلما حسن إسلامهما ومدحا رسول الله ونافحا عن الإسلام.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لحسان: "اهجهم - أو قال هاجهم - وجبريل معك" .. وعن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله - عز وجل - قد أنزل في الشعراء ما أنزل؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل" (رواه الإمام أحمد) .

والصور التي يتحقق بها الشعر الإسلامي والفن الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها؛وحسب الشعر أو الفن أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها، ليكون شعرا أو فنا يرضاه الإسلام.

وليس من الضروري أن يكون دفاعا ولا دفعا; ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيدا له أو لأيام الإسلام ورجاله؛ ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعرا إسلاميا، وإن نظرة إلى سريان الليل وتنفس الصبح، ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسه لهي الشعر الإسلامي [ ص: 2623 ] في صميمه، وإن لحظة إشراق واتصال بالله، أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله، لكفيلة أن تنشئ شعرا يرضاه الإسلام.

ومفرق الطريق أن للإسلام تصورا خاصا للحياة كلها، وللعلاقات والروابط فيها، فأيما شعر نشأ من هذا التصور فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام.

وتختم السورة بهذا التهديد الخفي المجمل:

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ..

السورة التي اشتملت على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم، واستهتارهم بالوعيد واستعجالهم بالعذاب، كما اشتملت على مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون.

تنتهي بهذا التهديد المخيف، الذي يلخص موضوع السورة، وكأنه الإيقاع الأخير المرهوب; يتمثل في صور شتى، يتمثلها الخيال ويتوقعها؛ وتزلزل كيان الظالمين زلزالا شديدا.

التالي السابق


الخدمات العلمية