صفحة جزء
أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر، ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته؟ أإله مع الله؟ تعالى الله عما يشركون! والناس - ومنهم المخاطبون أول مرة بهذا القرآن - يسلكون فجاج البر والبحر في أسفارهم; ويسبرون أسرار البر والبحر في تجاربهم.. ويهتدون.. فمن يهديهم؟ من أودع كيانهم تلك القوى المدركة؟ من أقدرهم على الاهتداء بالنجوم وبالآلات وبالمعالم؟ من وصل فطرتهم بفطرة هذا الكون، وطاقاتهم بأسراره؟ من جعل لآذانهم تلك القدرة على التقاط الأصوات، ولعيونهم تلك القدرة على التقاط الأضواء؟ ولحواسهم تلك القدرة على التقاط المحسوسات؟ ثم جعل لهم تلك الطاقة المدركة المسماة بالعقل أو القلب للانتفاع بكل المدركات، وتجميع تجارب الحواس والإلهامات؟

من؟ أإله مع الله؟

ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته؟ والرياح، مهما قيل في أسبابها الفلكية والجغرافية، تابعة للتصميم الكوني الأول، الذي يسمح بجريانها على النحو الذي تجري به، حاملة السحب من مكان إلى مكان، مبشرة بالمطر الذي تتجلى فيه رحمة الله، وهو سبب الحياة.

فمن الذي فطر هذا الكون على خلقته، فأرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته؟ من؟

أإله مع الله؟ تعالى الله عما يشركون! ويختم هذه الإيقاعات بسؤال عن خلقتهم وإعادتهم ورزقهم من السماء والأرض، مع التحدي والإفحام: [ ص: 2660 ] أمن يبدأ الخلق ثم يعيده، ومن يرزقكم من السماء والأرض؟ أإله مع الله؟ قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد إنكارها، ولا يمكن أحد تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته. وجوده لأن وجود هذا الكون ملجئ للإقرار بوجوده; وقد باءت بالفشل المنطقي كل محاولة لتعليل وجود هذا الكون على هذا النحو الذي يظهر فيه التدبير والقصد بغير الإقرار بوجود الله. ووحدانيته لأن آثار صنعته ملجئة للإقرار بوحدانيته; فعليها آثار التقدير الواحد، والتدبير الواحد; وفيها من التناسق المطلق ما يجزم بالإرادة الواحدة المنشئة للناموس الواحد.

فأما إعادة الخلق فهذه التي كانوا يجادلون فيها ويمارون. ولكن الإقرار يبدء الخلق على هذا النحو الذي يظهر فيه التقدير والتدبير والقصد والتنسيق، ملجئ كذلك للتصديق بإعادة الخلق، ليلقوا جزاءهم الحق على أعمالهم في دار الفناء، التي لا يتم فيها الجزاء الحق على الأعمال وإن كان يتم فيها أحيانا بعض الجزاء. فهذا التنسيق الواضح في خلقة الكون يقتضي أن يتم تمامه بالتنسيق المطلق بين العمل والجزاء. وهذا لا يتم في الحياة الدنيا. فلا بد إذن من التصديق بحياة أخرى يتحقق فيها التناسق والكمال.. أما لماذا لم يتم في هذه الأرض ذلك التنسيق المطلق بين العمل والجزاء؟ فذلك متروك لحكمة صاحب الخلق والتدبير. وهو سؤال لا يجوز توجيهه لأن الصانع أعلم بصنعته. وسر الصنعة عند الصانع. وهو غيب من غيبه الذي لم يطلع عليه أحدا!

ومن هذا التلازم بين الإقرار بمبدإ الحياة والإقرار بمعيدها يسألهم ذلك السؤال: أمن يبدأ الخلق ثم يعيده؟ أإله مع الله؟ والرزق من السماء والأرض متصل بالبدء والإعادة سواء. ورزق العباد من الأرض يتمثل في صور شتى أظهرها النبات والحيوان، والماء والهواء، للطعام والشراب والاستنشاق; ومنها كنوز الأرض من معادن وفلزات; وكنوز البحر من طعام وزينة. ومنها القوى العجيبة من مغناطيسية وكهرباء، وقوى أخرى لا يعلمها بعد إلا الله; ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن.

وأما رزقهم من السماء فلهم منه في الحياة الدنيا: الضوء والحرارة والمطر وسائر ما ييسره الله لهم من القوى والطاقات. ولهم منه في الآخرة عطاء الله الذي يقسمه لهم - وهو من السماء بمدلولها المعنوي، الذي يتردد كثيرا في القرآن والسنة; وهو معنى الارتفاع والاستعلاء.

وقد ذكر رزقهم من السماء والأرض بعد ذكر البدء والإعادة؛ لأن رزق السماء والأرض له علاقة بالبدء والإعادة. فعلاقة رزق الأرض بالبدء معروفة، فهو الذي يعيش عليه العباد. وعلاقته بالإعادة أن الناس يجزون في الآخرة على عملهم وتصرفهم في هذا الرزق الذي أعطوه في الدنيا.. وعلاقة رزق السماء بالبدء واضحة. فهو في الدنيا للحياة، وهو في الآخرة للجزاء.. وهكذا تبدو دقة التناسق في السياق القرآني العجيب.

والبدء والإعادة حقيقة. والرزق من السماء والأرض حقيقة. ولكنهم يغفلون عن هذه الحقائق، فيردهم القرآن إليها في تحد وإفحام:

أإله مع الله؟ قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وإنهم ليعجزون عن البرهان، كما يعجز عنه من يحاوله حتى الآن. وهذه طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة. يستخدم مشاهد الكون وحقائق النفس; فيجعل الكون كله إطارا للمنطق الذي يأخذ به القلوب; ويوقظ به الفطرة ويجلوها لتحكم منطقها الواضح الواصل البسيط; ويستجيش به المشاعر والوجدانات بما هو [ ص: 2661 ] مركوز فيها من الحقائق التي تغشيها الغفلة والنسيان، ويحجبها الجحود والكفران.. ويصل بهذا المنطق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تصميم الكون وأغوار النفس; والتي لا تقبل المراء الذي يقود إليه المنطق الذهني البارد، الذي انتقلت عدواه إلينا من المنطق الإغريقي، وفشا فيما يسمى علم التوحيد، أو علم الكلام!

وبعد هذه الجولة في الآفاق وفي أنفسهم لإثبات الوحدانية ونفي الشرك. يأخذ معهم في جولة أخرى عن الغيب المستور الذي لا يعلمه إلا الخالق الواحد المدبر، وعن الآخرة وهي غيب من غيب الله، يشهد المنطق والبداهة والفطرة بضرورته; ويعجز الإدراك والعلم البشري عن تحديد موعده:

التالي السابق


الخدمات العلمية