صفحة جزء
وقال الذين كفروا: أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون؟ وهذه كانت العقدة التي يقف أمامها الذين كفروا دائما: أإذا فارقتنا الحياة، ورمت أجسادنا وتناثرت في القبور، وصارت ترابا.. أإذا وقع هذا كله - وهو يقع للموتى بعد فترة من دفنهم إلا في حالات نادرة شاذة - أإذا وقع هذا لنا ولآبائنا الذين ماتوا قبلنا يمكن أن نبعث أحياء كرة أخرى، وأن نخرج من الأرض التي اختلط رفاتنا بترابها فصار ترابا؟

يقولون هذا، وتقف هذه الصورة المادية بينهم وبين تصور الحياة الأخرى. وينسون أنهم خلقوا أول مرة ولم يكونوا من قبل شيئا. ولا يدري أحد أين كانت الخلايا والذرات التي تكونت منها هياكلهم الأولى. فلقد كانت مفرقة في أطواء الأرض وأعماق البحار وأجواز الفضاء، فمنها ما جاء من تربة الأرض، ومنها ما جاء من عناصر الهواء والماء، ومنها ما قدم من الشمس البعيدة، ومنها ما تنفسه إنسان أو نبات أو حيوان، ومنها ما انبعث من جسد رم وتبخرت بعض عناصره في الهواء! .. ثم تمثلت هذه الخلايا والذرات في طعام يأكلونه، وشراب يشربونه، وهواء يتنفسونه، وشعاع يستدفئون به.. ثم إذا هذا الشتيت الذي لا يعلم عدده إلا الله، ولا يحصي مصادره إلا الله، يتجمع في هيكل إنسان; وهو ينمو من بويضة عالقة في رحم، حتى يصير جسدا مسجى في كفن.. فهؤلاء في خلقتهم أول مرة، فهل عجب أن يكونوا كذلك أو على نحو آخر في المرة الآخرة! [ ص: 2663 ] ولكنهم كانوا هكذا يقولون. وبعضهم ما يزال يقوله اليوم مع شيء من الاختلاف!

هكذا كانوا يقولون. ثم يتبعون هذه القولة الجاهلة المطموسة بالتهكم والاستنكار:

لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل. إن هذا إلا أساطير الأولين فهم كانوا يعرفون أن الرسل من قبل قد أنذروا آباءهم بالبعث والنشور. مما يدل على أن العرب لم تكن أذهانهم خالية من العقيدة، ولا غفلا من معانيها. إنما كانوا يرون أن الوعود لم تتحقق منذ بعيد; فيبنون على هذا استهتارهم بالوعد الجديد قائلين: إنها أساطير الأولين يرويها محمد - صلى الله عليه وسلم - غافلين أن للساعة موعدها الذي لا يتقدم لاستعجال البشر ولا يتأخر لرجائهم، إنما يجيء في الوقت المعلوم لله، المجهول للعباد في السماوات والأرض سواء. ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - وهو يسأله عن الساعة: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " .

وهنا يلمس قلوبهم بتوجيهها إلى مصارع الذين كذبوا قبلهم بالوعيد ويسميهم المجرمين:

قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين وفي هذا التوجيه توسيع لآفاق تفكيرهم، فالجيل من البشر ليس مقطوعا من شجرة البشرية; وهو محكوم بالسنن المتحكمة فيها; وما حدث للمجرمين من قبل يحدث للمجرمين من بعد، فإن السنن لا تحيد ولا تحابي. والسير في الأرض يطلع النفوس على مثل وسير وأحوال فيها عبرة، وفيها تفتيح لنوافذ مضيئة. وفيها لمسات للقلوب قد توقظها وتحييها. والقرآن يوجه الناس إلى البحث عن السنن المطردة، وتدبر خطواتها وحلقاتها؛ ليعيشوا حياة متصلة الأوشاج متسعة الآفاق، غير متحجرة ولا مغلقة ولا ضيقة ولا منقطعة.

وبعد أن يوجههم هذا التوجيه يأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن ينفض يديه من أمرهم، ويدعهم لمصيرهم، الذي وجههم إلى نظائره، وألا يضيق صدره بمكرهم، فإنهم لن يضروه شيئا، وألا يحزن عليهم فقد أدى واجبه تجاههم وأبلغهم وبصرهم.

ولا تحزن عليهم. ولا تكن في ضيق مما يمكرون وهذا النص يصور حساسية قلبه - صلى الله عليه وسلم - وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه من مصائر المكذبين قبلهم، ويدل كذلك على شدة مكرهم به وبالدعوة وبالمسلمين حتى ليضيق صدره الرحب الكبير.

ثم يمضي في سرد مقولاتهم عن قضية البعث، واستهانتهم بالوعيد بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة:

ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين كانوا يقولون هذا كلما خوفوا بمصائر المجرمين قبلهم، ومصارعهم التي يمرون عليها مصبحين كقرى لوط، وآثار ثمود في الحجر، وآثار عاد في الأحقاف، ومساكن سبأ بعد سيل العرم.. كانوا يقولون مستهزئين:

متى هذا الوعد إن كنتم صادقين متى هذا العذاب الذي تخوفوننا به؟ إن كنتم صادقين فهاتوه، أو خبرونا بموعده على التحديد!

وهنا يجيء الرد يلقي ظلال الهول المتربص، وظلال التهكم المنذر في كلمات قصار:

قل: عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون [ ص: 2664 ] بذلك يثير في قلوبهم الخوف والقلق من شبح العذاب. فقد يكون وراءهم - رديفا لهم كما يكون الرديف وراء الراكب فوق الدابة - وهم لا يشعرون. وهم في غفلتهم يستعجلون به وهو خلف رديف! فيالها من مفاجأة ترتعش لها الأوصال. وهم يستهزئون ويستهترون!

ومن يدري. إن الغيب لمحجوب. وإن الستار لمسبل. فما يدري أحد ما وراءه. وقد يكون على قيد خطوات ما يذهل وما يهول! إنما العاقل من يحذر، ومن يتهيأ ويستعد في كل لحظة لما وراء الستر المسدول!

التالي السابق


الخدمات العلمية