صفحة جزء
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا. إن كادت لتبدي به. لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين. وقالت لأخته: قصيه ..

لقد سمعت الإيحاء، وألقت بطفلها إلى الماء. ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أم؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟

والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية: فارغا .. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف!

إن كادت لتبدي به .. وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا أضعته. أنا أضعت طفلي. أنا ألقيت به في اليم اتباعا لهاتف غريب!

لولا أن ربطنا على قلبها .. وشددنا عليه وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود.

لتكون من المؤمنين .. المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه.

ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة! وقالت لأخته: قصيه .. اتبعي أثره، واعرفي خبره، إن كان حيا، أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر.. أو أين مقره ومرساه؟

وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق. فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه; وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع:

فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون. وحرمنا عليه المراضع من قبل. فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟ ..

إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره، وتكيد به لفرعون وآله; فتجعلهم يلتقطونه، وتجعلهم يحبونه، وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه، وتحرم عليه المراضع؛ لتدعهم يحتارون به; وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه، وهم يخشون عليه الموت أو الذبول! حتى تبصر به أخته من بعيد، فتعرفه وتتيح لهاالقدرة فرصة لهفتهم على مرضع، فتقول لهم: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ؟ فيتلقفون كلماتها، وهم يستبشرون، يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب!

وينتهي المشهد الرابع; فنجدنا أمام المشهد الخامس والأخير في هذه الحلقة. وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة. معافى في بدنه، مرموقا في مكانته، يحميه فرعون، وترعاه امرأته، وتضطرب المخاوف من حوله [ ص: 2681 ] وهو آمن قرير. وقد صاغت يد القدرة الحلقة الأولى من تدبيرها العجيب:

فرددناه إلى أمه، كي تقر عينها ولا تحزن، ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ..

ويسكت سياق القصة بعد هذا عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى - عليه السلام - والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله. فلا نعلم ماذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه. ولا كيف تربى في قصر فرعون. ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة. ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه بعد أن شب وكبر إلى أن تقع الأحداث التالية في الحلقة الثانية. ولا كيف كانت عقيدته، وهو الذي يصنع على عين الله، ويعد لوظيفته، في وسط عباد فرعون وكهنته..

يسكت سياق القصة عن كل هذا ويبدأ الحلقة الثانية مباشرة حين بلغ أشده واستوى، فقد آتاه الله الحكمة والعلم، وجزاه جزاء المحسنين:

ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما. وكذلك نجزي المحسنين ..

وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية. والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي. وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين. فهل ظل موسى في قصر فرعون، ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن؟ أم إنه افترق عنهما، واعتزل القصر، ولم تسترح نفسه للحياة في ظل تلك الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة كنفس موسى - عليه السلام - ؟ وبخاصة أن أمه لا بد أن تكون قد عرفته من هو ومن قومه وما ديانته. وهو يرى كيف يسام قومه الخسف البشع والظلم الشنيع، والبغي اللئيم; وهو يرى أبشع صورة للفساد الشائع الأثيم.

ليس لدينا من دليل ولكن سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا كما سيجيء; والتعقيب على إتيانه الحكمة والعلم: وكذلك نجزي المحسنين يشي كذلك بأنه أحسن فأحسن الله إليه بالحكمة والعلم:

التالي السابق


الخدمات العلمية