صفحة جزء
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ..

وهذه إحدى الآيات على صحته، فالكتاب كله من عند الله، فهو متطابق، من أوتي أوله عرف الحق في آخره، فاطمأن له، وآمن به، وعلم أنه من عند الله الذي نزل الكتاب كله.

وإذا يتلى عليهم قالوا: آمنا به. إنه الحق من ربنا. إنا كنا من قبله مسلمين ..

فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من تلاوته فيعرف الذين عرفوا الحق من قبل أنه من ذلك المعين، وأنه صادر من ذلك المصدر الواحد الذي لا يكذب. إنه الحق من ربنا .. إنا كنا من قبله مسلمين . والإسلام لله هو دين المؤمنين بكل دين.

هؤلاء الذين أسلموا لله من قبل، ثم صدقوا بالقرآن بمجرد سماعه:

أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ..

الصبر على الإسلام الخالص، إسلام القلب والوجه، ومغالبة الهوى والشهوة، والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة، أولئك يؤتون أجرهم مرتين، جزاء على ذلك الصبر، وهو عسير على النفوس،وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف، وهؤلاء صبروا عليها جميعا، وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية، وكما يقع دائما للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان:

ويدرءون بالحسنة السيئة ..

وهذا هو الصبر كذلك، وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية، إنه الاستعلاء على كبرياء النفس، ورغبتها في دفع السخرية، ورد الأذى، والشفاء من الغيظ، والبرد بالانتقام! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله، درجة السماحة الراضية، التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان; وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين.

ومما رزقناهم ينفقون ..

وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال، عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان، فهما من منبع واحد: منبع الاستعلاء على شهوة النفس، والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض، الأولى في النفس، والثانية في المال.

وكثيرا ما يردان متلازمين في القرآن.

وصفة أخرى من صفة النفوس المؤمنة الصابرة على الإسلام الخالصة للعقيدة:

وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. سلام عليكم. لا نبتغي الجاهلين ..

واللغو: فارغ الحديث، الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه. وهو الهذر الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب أو العقل زادا جديدا، ولا معرفة مفيدة؛ وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان، سواء: أوجه إلى مخاطب أم حكي عن غائب.

والقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو، ولا تستمع إلى ذاك الهذر، ولا تعنى بهذا البذاء، فهي مشغولة بتكاليف الإيمان، مرتفعة بأشواقه، متطهرة بنوره:

وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ..

[ ص: 2702 ] ولكنهم لا يهتاجون ولا يغتاظون ولا يجارون أهل اللغو فيردون عليهم بمثله، ولا يدخلون معهم في جدل حوله، لأن الجدل مع أهل اللغو لغو; إنما يتركونهم في موادعة وسلام.

وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. سلام عليكم ..

هكذا في أدب، وفي دعاء بالخير، وفي رغبة في الهداية؛ مع عدم الرغبة في المشاركة:

لا نبتغي الجاهلين ..

ولا نريد أن ننفق معهم وقتنا الثمين، ولا أن نجاريهم في لغوهم أو نسمع إليه صامتين!.

إنها صورة وضيئة للنفس المؤمنة المطمئنة إلى إيمانها، تفيض بالترفع عن اللغو، كما تفيض بالسماحة والود، وترسم لمن يريد أن يتأدب بأدب الله طريقه واضحا لا لبس فيه؛ فلا مشاركة للجهال، ولا مخاصمة لهم، ولا موجدة عليهم، ولا ضيق بهم، إنما هو الترفع والسماحة وحب الخير حتى للجارم المسيء.

هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم القرآن، ووراءه من قومه من جهد جهده ليؤمن; ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام، فلم يقدر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليهدي من يحب، إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان..

إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء. وهو أعلم بالمهتدين ..

ورد في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كان يحوطه وينصره، ويقف دونه في وجه قريش ، ويحميه حتى يبلغ دعوته، ويحتمل في سبيل ذلك مقاطعة قريش له ولبني هاشم وحصارهم في الشعب، ولكنه إنما يفعل ذلك كله حبا لابن أخيه، وحمية وإباء ونخوة، فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فلم يكتب الله له هذا، لما يعلمه –سبحانه - من أمره..

قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي - رضي الله عنه - قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية بن المغيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله". فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فأنزل الله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى . وأنزل في أبي طالب: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء .. (أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري) .

ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا عماه، قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة". فقال: لولا أن تعيرني بها قريش، يقولون: ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك، لا أقولها إلا لأقر بها عينك". ونزل قول الله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين .

[ ص: 2703 ] وروي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب، وكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب.

وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته، فهذا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكافله وحاميه والذائد عنه، لا يكتب الله له الإيمان، على شدة حبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشدة حب رسول الله له أن يؤمن، ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة، ولم يقصد إلى العقيدة، وقد علم الله هذا منه، فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرجوه؛ فأخرج هذا الأمر - أمر الهداية - من حصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعله خاصا بإرادته –سبحانه - وتقديره، وما على الرسول إلا البلاغ، وما على الداعين بعده إلا النصيحة، والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن، والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو للضلال.

التالي السابق


الخدمات العلمية