صفحة جزء
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين (85) وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين (86) ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين (87) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88)

والآن وقد انتهى القصص، وانتهت التعقيبات المباشرة على ذلك القصص، الآن يتوجه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة ، يتوجه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة ، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، والذي يعز عليه فراقه، لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه، ومهد ذكرياته، ومقر أهله، يتوجه الخطاب إلى رسول الله - صلى [ ص: 2715 ] الله عليه وسلم - وهو في موقفه ذاك:

إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ..

فما هو بتاركك للمشركين، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة، ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك، ويستبدون بك وبدعوتك، ويفتنون المؤمنين من حولك، إنما فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره، وفي الوقت الذي فرضه; وإنك اليوم لمخرج منه مطارد، ولكنك غدا منصور إليه عائد.

وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب، ليمضي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه آمنا واثقا، مطمئنا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه، ولا يستريب لحظة فيه.

وإن وعد الله لقائم لكل السالكين في الطريق; وإنه ما من أحد يؤذى في سبيل الله، فيصبر ويستيقن إلا نصره الله في وجه الطغيان في النهاية، وتولى عنه المعركة حين يبذل ما في وسعه، ويخلي عاتقه، ويؤدي واجبه.

إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد . ولقد رد موسى من قبل إلى الأرض التي خرج منها هاربا مطاردا، رده فأنقذ به المستضعفين من قومه، ودمر به فرعون وملأه، وكانت العاقبة للمهتدين، فامض إذن في طريقك، ودع أمر الحكم فيما بينك وبين قومك لله الذي فرض عليك القرآن:

قل: ربي أعلم من جاء بالهدى، ومن هو في ضلال مبين ..

ودع الأمر لله يجازي المهتدين والضالين.

وما كان فرض القرآن عليك إلا نعمة ورحمة; وما كان يجول في خاطرك أن تكون أنت المختار لتلقي هذه الأمانة، وإنه لمقام عظيم ما كنت تتطلع إليه قبل أن توهبه:

وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ..

وهو تقرير قاطع عن عدم تطلع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرسالة; إنما هو اختيار الله، والله يخلق ما يشاء ويختار، فذلك الأفق أعلى من أن يفكر فيه بشر قبل أن يختاره الله له ويؤهله ليرقاه. وهو رحمة من الله بنبيه وبالبشرية التي اختاره لهدايتها بهذه الرسالة. رحمة توهب للمختارين لا للمتطلعين، ولقد كان من حوله كثيرون في العرب وفي بني إسرائيل يتطلعون إلى الرسالة المنتظرة في آخر الزمان.ولكن الله - وهو أعلم حيث يجعل رسالته - قد اختار لها من لم يتطلع إليها ولم يرجها، من دون أولئك الطامعين المتطلعين، حينما علم منه الاستعداد لتلقي ذلك الفيض العظيم.

ومن ثم يأمره ربه - بما أنعم عليه بهذا الكتاب - ألا يكون ظهيرا للكافرين; ويحذره أن يصدوه عن آيات الله; ويمحض له عقيدة التوحيد خالصة في وجه الشرك والمشركين.

التالي السابق


الخدمات العلمية