صفحة جزء
[ ص: 2758 ] الم. غلبت الروم في أدنى الأرض. وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ..

ولقد صدق وعد الله، وفرح المؤمنون بنصر الله.

ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم ..

فالأمر له من قبل ومن بعد. وهو ينصر من يشاء. لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف، وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.

والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال. فهي ترد الأمر كله إلى الله. ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ودخل يصلي قائلا: توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " اعقلها وتوكل " . فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله.

ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم ..

فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع، وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس، وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف.

وعد الله. لا يخلف الله وعده. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ..

ذلك النصر وعد من الله، فلا بد من تحققه في واقع الحياة: لا يخلف الله وعده فوعده صادر عن إرادته الطليقة، وعن حكمته العميقة. وهو قادر على تحقيقه، لا راد لمشيئته، ولا معقب لحكمه، ولا يكون في الكون إلا ما يشاء.

وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولو بدا في الظاهر أنهم علماء، وأنهم يعرفون الكثير. ذلك أن علمهم سطحي، يتعلق بظواهر الحياة، ولا يتعمق سننها الثابتة، وقوانينها الأصيلة، ولا يدرك نواميسها الكبرى، وارتباطاتها الوثيقة: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا .. ثم لا يتجاوزون هذا الظاهر، ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه.

وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير، مهما بدا للناس واسعا شاملا، تستغرق جهودهم بعضه، ولا يستقصونه [ ص: 2759 ] في حياتهم المحدودة. والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل، تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه.

والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود، ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى، ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش بها ومعها. وأكثر الناس كذلك، لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود، وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود. والمؤمنون هذا الإيمن قلة في مجموع الناس. ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية.

وهم عن الآخرة هم غافلون .. فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة. والذين لا يدركون حكمة النشأة، ولا يدركون ناموس الوجود يغفلون عن الآخرة، ولا يقدرونها قدرها، ولا يحسبون حسابها، ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود، لا تتخلف مطلقا ولا تحيد.

والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل; وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم; فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا، ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا؛ لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض. فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون. ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود. والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيرة. ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة، وقدر زهيد من النصيب الضخم، وفصل صغير من الرواية الكبيرة!

ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها. لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة; ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون. فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال.. هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا; وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء.. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه; ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان، الخليفة في الأرض، المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله.

ولارتباط تحقق وعد الله بالنصر بالحق الأكبر الذي يقوم عليه هذا الوجود، وارتباط أمر الآخرة كذلك بهذا الحق استطرد يجول بهم جولة أخرى في ضمير هذا الكون. في السماوات والأرض وما بينهما، ويردهم إلى أنفسهم ينظرون في أعماقها ويتدبرون، علهم يدركون ذلك الحق الكبير، الذي يغفلون عنه حين يغفلون عن الآخرة; ويغفلون عن الدعوة التي تقودهم إلى رؤية ذلك الحق وتدبره:

التالي السابق


الخدمات العلمية