صفحة جزء
وتبدأ الجولة الرابعة بمشهد كوني ذي إيقاع خاص في القلب البشري. مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد، والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد. ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما الخبير بهما وبالناس وبما يعملون: ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، وأن الله بما تعملون خبير .. ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة: ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير .. ويلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة الله على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر: ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته؟ ويعقب على هذا بوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلم [ ص: 2783 ] الذي يبعدها عن بارئها، ويتخذ من هذا المنطق دليلا على قضية التوحيد: وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور .. وبمناسبة موج البحر وهوله يذكرهم بالهول الأكبر، وهو يقرر قضية الآخرة. الهول الذي يفصم وشائج الدم التي لا يفصلها في الدنيا هول: يا أيها الناس اتقوا ربكم. واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. إن وعد الله حق. فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور .. وعند هذا المقطع وهذا المؤثر الذي يرتجف له الكيان يختم السورة بآية تقرر القضايا التي عالجتها جميعا، في إيقاع قوي عميق مرهوب: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام. وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير ..

هذه الجولات الأربع بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب. هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب العليم بمداخلها. الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب..

والآن نأخذ في تفصيل هذا الإجمال. فنعرض هذه الجولات الأربع في درسين لما بين كل اثنين منها من ترابط واتساق..

الم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدى ورحمة للمحسنين، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ..

الافتتاح بالأحرف المقطعة. " ألف. لام. ميم " والإخبار عنها بأنها: تلك آيات الكتاب الحكيم للتنبيه إلى أن آيات الكتاب من جنس تلك الأحرف - على نحو ما تقدم في السور المبدوءة بالأحرف - واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة، لأن موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة، فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب في جوه المناسب على طريقة القرآن الكريم. ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والإرادة، فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه، قاصد لما يقول، مريد لما يهدف إليه. وإنه لكذلك في صميمه، فيه روح، وفيه حياة، وفيه حركة، وله شخصية ذاتية مميزة، وفيه إيناس، وله صحبة يحس بها من يعيشون معه ويحيون في ظلاله، ويشعرون له بحنين وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي، وبين الصديق والصديق!

هذا الكتاب الحكيم. أو آياته. هدى ورحمة للمحسنين فهذه حاله الأصلية الدائمة.. أن يكون هدى ورحمة للمحسنين. هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه. ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار، وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح، وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به، ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه، والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية، وتتعارف الفطر التي لا تزيغ..

والمحسنون هم: الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون .. وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملا تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة.. وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري، وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون. ويجد [ ص: 2784 ] الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان.. واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري، وتطلعه إلى ما عند الله، واستعلائه على أوهاق الأرض، وترفعه على متاع الحياة الدنيا، ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل، والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ..

وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة; لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة، ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة، وتصطلح نفوسهم عليه، وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق، وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز. إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة، ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين!

وأولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالآخرة.. أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون . ومن هدي فقد أفلح، فهو سائر على النور، واصل إلى الغاية، ناج من الضلال في الدنيا، ومن عواقب الضلال في الآخرة، وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب، تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود; فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود.

أولئك المهتدون بالكتاب وآياته، المحسنون، المقيمون للصلاة، المؤتون للزكاة، الموقنون بالآخرة، المفلحون في الدنيا والآخرة.. أولئك فريق.. وفي مقابلهم فريق:

ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا. أولئك لهم عذاب مهين. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا. فبشره بعذاب أليم ..

ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها، ويرسم لها الطريق. والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان.

وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم، ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم. ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص، إذا صح أنه وارد فيه. وهو يصور فريقا من الناس واضح السمات، قائما في كل حين. وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات.

ومن الناس من يشتري لهو الحديث .. يشتريه بماله ويشتريه بوقته، ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفني فيه عمره المحدود، الذي لا يعاد ولا يعود، يشتري هذا اللهو ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا فهو جاهل محجوب، لا يتصرف عن علم، ولا يرمي عن حكمة، وهو [ ص: 2785 ] سيئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيئ الأدب يتخذ سبيل الله هزوا، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس. ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: أولئك لهم عذاب مهين .. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم.

ثم يمضي في استكمال صورة ذلك الفريق: وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها وهو مشهد فيه حركة ترسم هيئة المستكبر المعرض المستهين. ومن ثم يعالجه بوخزة مهينة تدعو إلى تحقير هذه الهيئة: كأن في أذنيه وقرا وكأن هذا الثقل في أذنيه يحجبه عن سماع آيات الله الكريمة، وإلا فما يسمعها إنسان له سمع ثم يعرض عنها هذا الإعراض الذميم. ويتمم هذه الإشارة المحقرة بتهكم ملحوظ: فبشره بعذاب أليم فما البشارة في هذا الموضوع إلا نوع من التهكم المهين، يليق بالمتكبرين المستهزئين!

وبمناسبة الحديث عن جزاء الكافرين المستكبرين المعرضين يتحدث عن جزاء المؤمنين العاملين، الذين تحدث عنهم في صدر السورة، ويفصل شيئا من أمر فلاحهم الذي أجمله هناك:

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، خالدين فيها وعد الله حقا، وهو العزيز الحكيم ..

وحيثما ذكر الجزاء في القرآن الكريم ذكر قبله العمل الصالح مع الإيمان. فطبيعة هذه العقيدة تقتضي ألا يظل الإيمان في القلب حقيقة مجردة راكدة معطلة مكنونة; إنما هو حقيقة حية فاعلة متحركة، ما تكاد تستقر في القلب ويتم تمامها حتى تتحرك لتحقق ذاتها في العمل والحركة والسلوك، ولتترجم عن طبيعتها بالآثار البارزة في عالم الواقع، المنبئة عما هو كائن منها في عالم الضمير.

وهؤلاء الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح لهم جنات النعيم خالدين فيها .. لهم هذه الجنات وهذا الخلود تحقيقا لوعد الله الحق. وعد الله حقا فقد بلغ من فضل الخالق على العباد أن يوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه! وهو الغني عن الجميع!

وهو العزيز الحكيم .. القادر على تحقيق وعده، الحكيم في الخلق والوعد والتحقيق.

وآية القدرة، وآية الحكمة، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة.. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه، ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله، وهو ضخم هائل دقيق النظام، متناسق التكوين، يأخذ بالقلب، ويبهر اللب، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها، ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين:

التالي السابق


الخدمات العلمية