صفحة جزء
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ..

وتبدو هذه المجادلة مستغربة مستنكرة في ظل ذلك البرهان الكوني، وفي جوار هذه النعمة السابغة. [ ص: 2793 ] ويبدو الجحود والإنكار بشعا شنيعا قبيحا، تنفر منه الفطرة، ويقشعر منه الضمير. ويبدو هذا الفريق من الناس الذي يجادل في حقيقة الله، وعلاقة الخلق بهذه الحقيقة. يبدو منحرف الفطرة ولا يستجيب لداعي الكون كله من حوله، جاحدا النعمة لا يستحيي أن يجادل في المنعم بكل هذه النعم السابغة. ويزيد موقفه بشاعة أنه لا يرتكن في هذا الجدال إلى علم، ولا يهتدي بهدى، ولا يستند إلى كتاب ينير له القضية ويقدم له الدليل.

وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ..

فهذا هو سندهم الوحيد، وهذا هو دليلهم العجيب! التقليد الجامد المتحجر الذي لا يقوم على علم ولا يعتمد على تفكير. التقليد الذي يريد الإسلام أن يحررهم منه، وأن يطلق عقولهم لتتدبر، ويشيع فيها اليقظة والحركة والنور، فيأبوا هم الانطلاق من إسار الماضي المنحرف، ويتمسكوا بالأغلال والقيود.

إن الإسلام حرية في الضمير، وحركة في الشعور، وتطلع إلى النور، ومنهج جديد للحياة طليق من إسار التقليد والجمود. ومع ذلك كان يأباه ذلك الفريق من الناس، ويدفعون عن أرواحهم هداه، ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. ومن ثم يسخر منهم ويتهكم عليهم، ويشير من طرف خفي إلى عاقبة هذا الموقف المريب:

أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟ ..

فهذا الموقف إنما هو دعوة من الشيطان لهم، لينتهي بهم إلى عذاب السعير. فهل هم مصرون عليه ولو قادهم إلى ذلك المصير؟ .. لمسة موقظة ومؤثر مخيف، بعد ذلك الدليل الكوني العظيم اللطيف.

وبمناسبة ذلك الجدال المتعنت الذي لا يستند إلى علم، ولا يهتدي بهدى، ولا يستمد من كتاب. يشير إلى السلوك الواجب تجاه الدليل الكوني والنعمة السابغة:

ومن يسلم وجهه إلى الله - وهو محسن - فقد استمسك بالعروة الوثقى، وإلى الله عاقبة الأمور ..

إنه الاستسلام المطلق لله - مع إحسان العمل والسلوك - الاستسلام بكامل معناه، والطمأنينة لقدر الله. والانصياع لأوامر الله وتكاليفه وتوجيهاته مع الشعور بالثقة والاطمئنان للرحمة، والاسترواح للرعاية، والرضى الوجداني، رضى السكون والارتياح.. كل أولئك يرمز له بإسلام الوجه إلى الله. والوجه أكرم وأعلى ما في الإنسان..

ومن يسلم وجهه إلى الله - وهو محسن - فقد استمسك بالعروة الوثقى .. العروة الوثقى التي لا تنقطع ولا تهن ولا تخون ممسكا بها في سراء أو ضراء، ولا يضل من يشد عليها في الطريق الوعر والليلة المظلمة، بين العواصف والأنواء!

هذه العروة الوثقى هي الصلة الوثيقة الثابتة المطمئنة بين قلب المؤمن المستسلم وربه. هي الطمأنينة إلى كل ما يأتي به قدر الله في رضى وفي ثقة وفي قبول، طمأنينة تحفظ للنفس هدوءها وسكينتها ورباطة جأشها في مواجهة الأحداث، وفي الاستعلاء على السراء فلا تبطر، وعل الضراء فلا تصغر، وعلى المفاجئات فلا تذهل; وعلى اللأواء في طريق الإيمان، والعقبات تتناثر فيه من هنا ومن هناك.

إن الرحلة طويلة وشاقة وحافلة بالأخطار. وخطر المتاع فيها والوجدان ليس أصغر ولا أقل من خطر الحرمان فيها والشقاء. وخطر السراء فيها ليس أهون ولا أيسر من خطر الضراء. والحاجة إلى السند الذي لا يهن، [ ص: 2794 ] والحبل الذي لا ينقطع، حاجة ماسة دائمة. والعروة الوثقى هي عروة الإسلام لله والاستسلام والإحسان.

وإلى الله عاقبة الأمور .. وإليه المرجع والمصير. فخير أن يسلم الإنسان وجهه إليه منذ البداية، وأن يسلك إليه الطريق على ثقة وهدى ونور..

ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم، فننبئهم بما عملوا، إن الله عليم بذات الصدور. نمتعهم قليلا، ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ..

تلك نهاية من يسلم وجهه إلى الله وهو محسن. وهذه نهاية من يكفر ويخدعه متاعالحياة. نهايته في الدنيا تهوين شأنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين. ومن كفر فلا يحزنك كفره .. فشأنه أهون من أن يحزنك، وأصغر من أن يهمك.. ونهايته في الأخرى التهوين من شأنه كذلك. وهو في قبضة الله لا يفلت وهو مأخوذ بعمله، والله أعلم بما عمل وبما يخفيه في صدره من نوايا: إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا. إن الله عليم بذات الصدور .. ومتاع الحياة الذي يخدعه قليل، قصير الأجل، زهيد القيمة..

نمتعهم قليلا .. والعاقبة بعد ذلك مروعة فظيعة وهو مدفوع إليها دفعا لا يملك لها ردا: ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ .. ووصف العذاب بالغلظ يجسمه - على طريقة القرآن - والتعبير بالاضطرار يلقي ظل الهول الذي يحاول الكافر ألا يواجهه، مع العجز عن دفعه، أو التلكؤ دونه! فأين هذا ممن يسلم وجهه إلى الله ويستمسك بالعروة الوثقى، ويصير إلى ربه في النهاية هادئ النفس مطمئن الضمير؟

ثم يقفهم أمام منطق فطرتهم، حين تواجه الكون، فلا تجد مناصا من الاعتراف بالحقيقة الكامنة فيها وفي فطرة الكون على السواء، ولكنهم يزيغون عنها وينحرفون، ويغفلون منطقها القويم:

ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن: الله. قل: الحمد لله. بل أكثرهم لا يعلمون. لله ما في السماوات والأرض. إن الله هو الغني الحميد ..

وما يملك الإنسان حين يستفتي فطرته ويعود إلى ضميره أن ينكر هذه الحقيقة الواضحة الناطقة. فهذه السماوات والأرض قائمة. مقدرة أوضاعها وأحجامها وحركاتها وأبعادها، وخواصها وصفاتها. مقدرة تقديرا يبدو فيه القصد، كما يبدو فيه التناسق. وهي قبل ذلك خلائق لا يدعي أحد أنه خلقها، ولا يدعي أحد أن خالقا آخر غير الله شارك فيها، ولا يمكن أن توجد هكذا بذاتها. ثم لا يمكن أن تنتظم وتتسق وتقوم وتتناسق بدون تدبير، وبدون مدبر. والقول بأنها وجدت وقامت تلقائيا أو فلتة أو مصادفة لا يستحق احترام المناقشة. فضلا على أن الفطرة من أعماقها تنكره وترده.

وأولئك الذين كانوا يواجهون عقيدة التوحيد بالشرك; ويقابلون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجدال العنيف، لم يكونوا يستطيعون أن يزيفوا منطق فطرتهم حين تواجه بالدليل الكوني الممثل في وجود السماوات والأرض، وقيامهما أمام العين، لا تحتاجان إلى أكثر من النظر!

ومن ثم لم يكونوا يتلجلجون في الجواب: لو سئلوا: " من خلق السماوات والأرض؟ " وجوابهم: " الله " ..

لذلك يوجه الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليعقب على جوابهم هذا بحمد الله: " قل: الحمد لله " .. الحمد لله على وضوح الحق في الفطرة، والحمد لله على هذا الإقرار القهري أمام الدليل الكوني. والحمد لله على كل حال. ثم يضرب عن الجدل والتعقيب بتعقيب آخر: " بل أكثرهم لا يعلمون " .. ومن ثم يجادلون ويجهلون منطق الفطرة، ودلالة هذا الكون على خالقه العظيم.

[ ص: 2795 ] وبمناسبة إقرار فطرتهم بخلق الله للسماوات والأرض يقرر كذلك ملكية الله المطلقة لكل ما في السماوات والأرض. ما سخره للإنسان وما لم يسخره. وهو مع ذلك الغني عن كل ما في السماوات والأرض، المحمود بذاته ولو لم يتوجه إليه الناس بالحمد:

لله ما في السماوات والأرض. إن الله هو الغني الحميد ..

والآن تختم هذه الجولة بمشهد كوني يرمز إلى غنى الله الذي لا ينفد، وعلمه الذي لا يحد، وقدرته على الخلق والتكوين المتجددين بغير ما نهاية، ومشيئته المطلقة التي لا نهاية لما تريد:

ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر، ما نفدت كلمات الله. إن الله عزيز حكيم. ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير ..

إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة، ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود، والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل.

إن البشر يكتبون علمهم، ويسجلون قولهم، ويمضون أوامرهم، عن طريق كتابتها بأقلام - كانت تتخذ من الغاب والبوص - يمدونها بمداد من الحبر ونحوه. لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة! فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلاما. وجميع ما في الأرض من بحر تحول مدادا. بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك.. وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة، الدالة على علمه، المعبرة عن مشيئته.. فماذا؟ لقد نفدت الأقلام ونفد المداد. نفدت الأشجار ونفدت البحار.. وكلمات الله باقية لم تنفد، ولم تأت لها نهاية.. إنه المحدود يواجه غير المحدود. ومهما يبلغ المحدود فسينتهي، ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئا على الإطلاق.. إن كلمات الله لا تنفد، لأن علمه لا يحد، ولأن إرادته لا تكف، ولأن مشيئته - سبحانه - ماضية ليس لها حدود ولا قيود.

وتتوارى الأشجار والبحار، وتنزوي الأحياء والأشياء، وتتوارى الأشكال والأحوال. ويقف القلب البشري خاشعا أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب، وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم: إن الله عزيز حكيم ..

وأمام هذا المشهد الخاشع يلقي بالإيقاع الأخير في هذه الجولة، متخذا من ذلك المشهد دليلا كونيا على يسر الخلق وسهولة البعث:

ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير ..

والإرادة التي تخلق بمجرد توجه المشيئة إلى الخلق، يستوي عندها الواحد والكثير، فهي لا تبذل جهدا محدودا في خلق كل فرد، ولا تكرر الجهد مع كل فرد. وعندئذ يستوي خلق الواحد وخلق الملايين، وبعث النفس الواحدة وبعث الملايين. إنما هي الكلمة. هي المشيئة: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ..

ومع القدرة العلم والخبرة مصاحبان للخلق والبعث وما وراءهما من حساب وجزاء دقيق: إن الله سميع بصير ..

وتأتي الجولة الأخيرة تعالج القضية التي عالجتها الجولات الثلاث من قبل. فتقرر أن الله هو الحق وأن [ ص: 2796 ] ما يدعون من دونه الباطل. وتقرر إخلاص العبادة لله وحده. وتقرر قضية اليوم الآخر الذي لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.. وتستصحب مع هذه القضايا مؤثرات منوعة جديدة.

وتعرضها في المجال الكوني الفسيح..

ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل؟ وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى؟ وأن الله بما تعملون خبير؟ ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأن الله هو العلي الكبير ..

ومشهد دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، وتناقصهما وامتدادهما عند اختلاف الفصول، مشهد عجيب حقا، ولكن طول الألفة والتكرار يفقد أكثر الناس الحساسية تجاهه فلا يلحظون هذه العجيبة، التي تتكرر بانتظام دقيق، لا يتخلف مرة ولا يضطرب، ولا تنحرف تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد.. والله وحده هو القادر على إنشاء هذا النظام وحفظه، ولا يحتاج إدراك هذه الحقيقة إلى أكثر من رؤية تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد.

وعلاقة تلك الدورة بالشمس والقمر وجريانهم المنتظم علاقة واضحة. وتسخير الشمس والقمر عجيبة أضخم من عجيبة الليل والنهار ونقصهما وزيادتهما. وما يقدر على هذا التسخير إلا الله القدير الخبير. وهو الذي يقدر ويعلم أمد جريانهما إلى الوقت المعلوم. ومع حقيقة إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وحقيقة تسخير الشمس والقمر - وهما حقيقتان كونيتان بارزتان - حقيقة أخرى مثلهما يقررها معهما في آية واحدة: وأن الله بما تعملون خبير .. وهكذا تبرز هذه الحقيقة الغيبية، إلى جانب الحقائق الكونية. حقيقة مثلها، ذات ارتباط بها وثيق.

ثم يعقب على هذه الحقائق الثلاث بالحقيقة الكبرى التي تقوم عليها الحقائق جميعا. الحقيقة الأولى التي تنبثق منها الحقائق جميعا. وهي الحقيقة التي تعالجها الجولة، وتقدم لها بهذا الدليل:

ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأن الله هو العلي الكبير ..

ذلك.. ذلك النظام الكوني الثابت الدائم المنسق الدقيق.. ذلك النظام قائم بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل. قائم بهذه الحقيقة الكبرى التي تعتمد عليها كل حقيقة، والتي يقوم بها هذا الوجود. فكون اله هو الحق. سبحانه. هو الذي يقيم هذا الكون، وهو الذي يحفظه، وهو الذي يدبره، وهو الذي يضمن له الثبات والاستقرار والتماسك والتناسق، ما شاء الله له أن يكون..

ذلك بأن الله هو الحق .. كل شيء غيره يتبدل. وكل شيء غيره يتحول. وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان، وتتعاوره القوة والضعف، والازدهار والذبول، والإقبال والإدبار. وكل شيء غيره يوجد بعد أن لم يكن، ويزول بعد أن يكون. وهو وحده - سبحانه - الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول..

ثم تبقى في النفس بقية من قوله تعالى: ذلك بأن الله هو الحق .. بقية لا تنقلها الألفاظ ولا يستقل بها التعبير البشري الذي أملك. بقية يتمثلها القلب ويستشعرها الضمير، ويحسها الكيان الإنساني كله ويقصر عنها التعبير! .. وكذلك: وأن الله هو العلي الكبير .. الذي ليس غيره " علي " ولا " كبير " !!! ترى قلت شيئا يفصح عما يخالج كياني كله أمام التعبير القرآني العجيب؟ أحس أن كل تعبير بشري عن مثل هذه الحقائق العليا ينقص منها ولا يزيد، وأن التعبير القرآني - كما هو - هو وحده التعبير الموحي الفريد!!!

[ ص: 2797 ] ويعقب السياق على ذلك المشهد الكوني، وهذه اللمسة الوجدانية، بمشهد آخر من مألوف حياة البشر. مشهد الفلك تجري في البحر بفضل الله. ويقفهم في هذا المشهد أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر وخطره، مجردة من القوة والبأس والبطر والغرور:

ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته؟ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور. وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد، وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ..

والفلك تجري في البحر وفق النواميس التي أودعها الله البحر والفلك والريح والأرض والسماء. فخلقة هذه الخلائق بخواصها هذه هي التي جعلت الفلك تجري في البحر ولا تغطس أو تقف. ولو اختلت تلك الخواص أي اختلال ما جرت الفلك في البحر. لو اختلت كثافة الماء أو كثافة مادة الفلك. لو اختلت نسبة ضغط الهواء على سطح البحر. لو اختلت التيارات المائية والهوائية. لو اختلت درجة الحرارة عن الحد الذي يبقي الماء ماء، ويبقي تيارات الماء والهواء في الحدود المناسبة.. لو اختلت نسبة واحدة أي اختلال ما جرت الفلك في الماء، وبعد ذلك كله يبقى أن الله هو حارس الفلك وحاميها فوق ثبج الأمواج وسط العواصف والأنواء، حيث لا عاصم لها إلا الله. فهي تجري بنعمة الله وفضله على كل حال. ثم هي تجري حاملة نعمة الله وفضله كذلك. والتعبير يشمل هذا المعنى وذاك: ليريكم من آياته .. وهي معروضة للرؤية، يراها من يريد أن يرى; وليس بها من غموض ولا خفاء.. إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .. صبار في الضراء، شكور في السراء; وهما الحالتان اللتان تتعاوران الإنسان.

ولكن الناس لا يصبرون، ولا يشكرون، إنما يصيبهم الضر فيجأرون، وينجيهم الله من الضر فلا يشكر منهم إلا القليل:

وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ..

فأمام مثل هذا الخطر، والموج يغشاهم كالظلل، والفلك كالريشة الحائرة في الخضم الهائل.. تتعرى النفوس من القوة الخادعة، وتتجرد من القدرة الموهومة، التي تحجب عنها في ساعات الرضاء حقيقة فطرتها، وتقطع ما بين هذه الفطرة وخالقها. حتى إذا سقطت هذه الحوائل، وتعرت الفطرة من كل ستار، استقامت إلى ربها، واتجهت إلى بارئها، وأخلصت له الدين، ونفت كل شريك، ونبذت كل دخيل. ودعوا الله مخلصين له الدين.

فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ..

لا يجرفه الأمن والرخاء إلى النسيان والاستهتار، إنما يظل ذاكرا شاكرا، وإن لم يوف حق الله في الذكر والشكر؛ فأقصى ما يبلغه ذاكر شاكر أن يكون مقتصدا في الأداء.

ومنهم من يجحد وينكر آيات الله بمجرد زوال الخطر وعودة الرخاء: وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور .. والختار الشديد الغدر، والكفور الشديد الكفر، وهذه المبالغة الوصفية تليق هنا بمن يجحد آيات الله بعد هذه المشاهد الكونية، ومنطق الفطرة الخالص الواضح المبين.

التالي السابق


الخدمات العلمية