صفحة جزء
وقالوا: أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد؟ بل هم بلقاء ربهم كافرون ..

إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقا جديدا، بعد موتهم ودفنهم، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض، ويختلط بذراتها، ويضل فيها، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى؟ لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين. من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها. فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى، وليس فيها غريب ولا جديد! بل هم بلقاء ربهم كافرون .. ومن ثم يقولون ما يقولون. فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة.

لذلك يرد على اعتراضهم بتقرير وفاتهم ورجعتهم، مكتفيا بالبرهان الحي الماثل في نشأتهم الأولى ولا زيادة:

قل: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، ثم إلى ربكم ترجعون ..

هكذا في صورة الخبر اليقين.. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب الله، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد.

وبمناسبة البعث الذي يعترضون عليه والرجعة التي يشكون فيها، يقفهم وجها لوجه أمام مشهد من مشاهد القيامة; مشهد حي شاخص حافل بالتأثرات والحركات والحوار كأنه واقع مشهود:

ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم. ربنا أبصرنا وسمعنا، فارجعنا نعمل صالحا، إنا موقنون - ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها، ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين - فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا، إنا نسيناكم، وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ..

إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى.. وهم ناكسو رؤوسهم خجلا وخزيا.. عند ربهم .. الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا.. ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان.

وقبل أن يعلن السياق جواب استخذائهم الذليل، يقرر الحقيقة التي تتحكم في الموقف كله; وتتحكم قبل ذلك في حياة الناس ومصائرهم:

ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها. ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ..

ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقا واحدا. هو طريق الهدى، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب; أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة، يملك معها الهدى والضلال; ويختار الهداية أو يحيد عنها; ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم.

[ ص: 2812 ] وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رؤوسهم. هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول. ومن ثم يقال لهم:

فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ..

يومكم هذا الحاضر. فنحن في المشهد في اليوم الآخر.. ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت. ذوقوا إنا نسيناكم .. والله لا ينسى أحدا. ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء.

وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ..

ويسدل الستار على المشهد. وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه. وترك المجرمون لمصيرهم المهين. ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك، وكأنهم شاخصون حيث تركهم! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب.

يسدل الستار على ذلك المشهد ليرفعه عن مشهد آخر، في ظل آخر، وفي جو آخر، له عطر آخر تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب. إنه مشهد المؤمنين. مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله، طامعة راجية في فضل الله. وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال:

إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم، وهم لا يستكبرون. تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفا وطمعا، ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، جزاء بما كانوا يعملون ..

وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة، اللطيفة، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء، في غير ما استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير.

هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم خروا سجدا تأثرا بما ذكروا به، وتعظيما لله الذي ذكروا بآياته، وشعورا بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل، تعبيرا عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب وسبحوا بحمد ربهم . مع حركة الجسد بالسجود. وهم لا يستكبرون .. فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال.

ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة. في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب:

التالي السابق


الخدمات العلمية