صفحة جزء
[ ص: 2850 ] [ ص: 2851 ] بسم الله الرحمن الرحيم

بقية سورة الأحزاب وسورتا سبأ وفاطر الجزء الثاني والعشرون

[ ص: 2852 ] [ ص: 2853 ] يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29) يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا (30) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (31) يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33) واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (34) إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35)

هذا الدرس الثالث في سورة الأحزاب خاص بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما عدا الاستطراد الأخير لبيان جزاء المسلمين كافة والمسلمات - ولقد سبق في أوائل السورة تسميتهن " أمهات المؤمنين " . ولهذه الأمومة تكاليفها. وللمرتبة السامية التي استحققن بها هذه الصفة تكاليفها. ولمكانتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكاليفها. وفي هذا الدرس بيان لشيء من هذه التكاليف; وإقرار للقيم التي أراد الله لبيت النبوة الطاهر أن يمثلها، وأن يقوم عليها، وأن يكون فيها منارة يهتدي بها السالكون.

يا أيها النبي، قل لأزواجك: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ..

لقد اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزا عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت غنائمها، وعم فيؤها، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد! ومع هذا فقد كان الشهر يمض ولا توقد في بيوته نار. مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا. ولكن ذلك كان اختيارا للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا ورغبة خالصة فيما عند الله. رغبة الذي يملك ولكنه يعف ويستعلي [ ص: 2854 ] ويختار.. ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكلفا من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته; ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفوا بلا تكلف، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقا، لا جريا وراءها ولا تشهيا لها، ولا انغماسا فيها ولا انشغالا بها.. ولم يكلف أمته كذلك أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه، إلا أن يختارها من يريد، استعلاء على اللذائذ والمتاع، وانطلاقا من ثقلتها إلى حيث الحرية التامة من رغبات النفس وميولها.

ولكن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن نساء من البشر، لهن مشاعر البشر. وعلى فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن. فلما أن رأين السعة والرخاء بعد ما أفاض الله على رسوله وعلى المؤمنين راجعن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر النفقة. فلم يستقبل هذه المراجعة بالترحيب، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضى; إذ كانت نفسه - صلى الله عليه وسلم - ترغبفي أن تعيش فيما اختاره لها من طلاقة وارتفاع ورضى; متجردة من الانشغال بمثل ذلك الأمر والاحتفال به أدنى احتفال; وأن تظل حياته وحياة من يلوذون به على ذلك الأفق السامي الوضيء المبرإ من كل ظل لهذه الدنيا وأوشابها. لا بوصفه حلالا وحراما - فقد تبين الحلال والحرام - ولكن من ناحية التحرر والانطلاق والفكاك من هواتف هذه الأرض الرخيصة!

ولقد بلغ الأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مطالبة نسائه له بالنفقة أن احتجب عن أصحابه. وكان احتجابه عنهم أمرا صعبا عليهم يهون كل شيء دونه. وجاءوا فلم يؤذن لهم. روى الإمام أحمد - بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: أقبل أبو بكر - رضي الله عنه - يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ببابه جلوس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس، فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر - رضي الله عنه - فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فدخلا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس وحوله نساؤه، وهو - صلى الله عليه وسلم - ساكت. فقال عمر - رضي الله عنه - : لأكلمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله يضحك. فقال عمر - رضي الله عنه - يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها! فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، وقال: " هن حولي يسألنني النفقة " ! فقام أبو بكر - رضي الله عنه - إلى عائشة ليضربها، وقام عمر - رضي الله عنه - إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده؟! فنهاهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا المجلس ما ليس عنده.. قال: وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة - رضي الله عنها - فقال: " إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها (يا أيها النبي قل لأزواجك) .. الآية. قالت عائشة - رضي الله عنها - : أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله. وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال - صلى الله عليه وسلم - " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " .

وفي رواية البخاري - بإسناده - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير [ ص: 2855 ] أزواجه. قالت: فبدأ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " - وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه - قالت: ثم قال: " إن الله تعالى قال: يا أيها النبي قل لأزواجك إلى تمام الآيتين. فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.

لقد جاء القرآن الكريم ليحدد القيم الأساسية في تصور الإسلام للحياة. هذه القيم التي ينبغي أن تجد ترجمتها الحية في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وحياته الخاصة; وأن تتحقق في أدق صورة وأوضحها في هذا البيت الذي كان - وسيبقى - منارة للمسلمين وللإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ونزلت آيتا التخيير تحددان الطريق. فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة. فالقلب الواحد لا يسع تصورين للحياة. وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

وقد كانت نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا المجلس ما ليس عنده. فنزل القرآن ليقرر أصل القضية. فليست المسألة أن يكون عنده أو لا يكون. إنما المسألة هي اختيار الله ورسوله والدار الآخرة كلية، أو اختيار الزينة والمتاع. سواء كانت خزائن الأرض كلها تحت أيديهن أم كانت بيوتهن خاوية من الزاد. وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة اختيارا مطلقا بعد هذا التخيير الحاسم. وكن حيث تؤهلهن مكانتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك الأفق العالي الكريم اللائق ببيت الرسول العظيم. وفي بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرح بهذا الاختيار.

ونحب أن نقف لحظات أمام هذا الحادث نتدبره من بعض زواياه.

إنه يحدد التصور الإسلامي الواضح للقيم; ويرسم الطريق الشعوري للإحساس بالدنيا والآخرة. ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة وكل لجلجة بين قيم الدنيا وقيم الآخرة; بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء. ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله والخلوص له وحده دون سواه.

هذا من جانب ومن الجانب الآخر يصور لنا هذا الحادث حقيقة حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين عاشوا معه واتصلوا به. وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان وحياة ناس من البشر; لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم وسماتهم الإنسانية. مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها; ومع كل هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه. فالمشاعر الإنسانية والعواطف البشرية لم تمت في تلك النفوس. ولكنها ارتفعت، وصفت من الأوشاب. ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإنسان.

وكثيرا ما نخطئ نحن حين نتصور للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصحابته - رضوان الله عليهم - صورة غير حقيقية، أو غير كاملة، نجردهم فيها من كل المشاعر والعواطف البشرية، حاسبين أننا نرفعهم بهذا وننزههم عما نعده نحن نقصا وضعفا!

وهذا الخطأ يرسم لهم صورة غير واقعية، صورة ملفعة بهالات غامضة لا نتبين من خلالها ملامحهم الإنسانية الأصيلة. ومن ثم تنقطع الصلة البشرية بيننا وبينهم. وتبقى شخوصهم في حسنا بين تلك الهالات أقرب إلى الأطياف التي لا تلمس ولا تتماسك في الأيدي! ونشعر بهم كما لو كانوا خلقا آخر غيرنا. ملائكة أو خلقا مثلهم مجردا من مشاعر البشر وعواطفهم على كل حال! ومع شفافية هذه الصورة الخيالية فإنها [ ص: 2856 ] تبعدهم عن محيطنا، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر. يأسا من إمكان التشبه بهم أو الاقتداء العملي في الحياة الواقعية. وتفقد السيرة بذلك أهم عنصر محرك، وهو استجاشة مشاعرنا للأسوة والتقليد. وتحل محلها الروعة والانبهار، اللذان لا ينتجان إلا شعورا مبهما غامضا سحريا ليس له أثر عملي في حياتنا الواقعية.. ثم نفقد كذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة. لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون، عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن. ولكنهم هم ارتقوا بها وصفوها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا.

وحكمة الله واضحة في أن يختار رسله من البشر، لا من الملائكة ولا من أي خلق آخر غير البشر. كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة; وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم، وإن صفت ورفت وارتقت. فيحبوهم حب الإنسان للإنسان; ويطمعوا في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير.

وف حادث التخيير نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتاع; كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونسائه - رضي الله عنهن - وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة! فيؤذيه هذا، ولكنه لا يقبل من أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أن يضربا عائشة وحفصة على هذه المراجعة. فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية، تصفى وترفع، ولكنها لا تخمد ولا تكبت! ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه. فيخترن الله ورسوله والدر الآخرة، اختيارا لا إكراه فيه ولا كبت ولا ضغط; فيفرح قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء.

ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحب عائشة حبا ظاهرا; ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له ولأهل بيته فيبدأ بها في التخيير; ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد; فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها - وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت - وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تخطئ عائشة - رضي الله عنها - من جانبها في إدراكها; فتسرها وتحفل بتسجيلها في حديثها. ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي - صلى الله عليه وسلم - إنسانا يحب زوجه الصغيرة، فيحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه; وتبقى معه على هذا الأفق، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه، والتي يريدها له ربه ولأهل بيته. كذلك تبدو عائشة - رضي الله عنها - إنسانة يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها; فتسجل بفرح حرصه عليها، وحبه له، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء. ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن! وما في هذا الطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار، وميزتها على بقية نسائه، أو على بعضهن في هذا المقام! .. وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لها: " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني واحدة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " .. فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير; ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير; بل يقدم العون لكل من تريد العون. كي ترتفع على نفسها، وتتخلص من جواذب الأرض ومغريات المتاع!

هذه الملامح البشرية العزيزة ينبغي لنا - ونحن نعرض السيرة - ألا نطمسها، وألا نهملها، وألا نقلل من [ ص: 2857 ] قيمتها. فإدراكها على حقيقتها هو الذي يربط بيننا وبين شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشخصيات أصحابه - رضي الله عنهم - برباط حي، فيه من التعاطف والتجاوب ما يستجيش القلب إلى التأسي العملي والاقتداء الواقعي.

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النص القرآني. فنجده - بعد تحديد القيم في أمر الدنيا والآخرة; وتحقيق قوله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه في صورة عملية في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته.. نجده بعد هذا البيان يأخذ في بيان الجزاء المدخر لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه خصوصية لهن وعليهن، تناسب مقامهن الكريم، ومكانهن من رسول الله المختار:

يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين، وأعتدنا لها رزقا كريما ..

إنها تبعة المكان الكريم الذي هن فيه. وهن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن أمهات المؤمنين. وهذه الصفة وتلك كلتاهما ترتبان عليهن واجبات ثقيلة، وتعصمانهن كذلك من مقارفة الفاحشة. فإذا فرض وقارفت واحدة منهن فاحشة مبينة واضحة لإخفاء فيها، كانت مستحقة لضعفين من العذاب. وذلك فرض يبين تبعة المكان الكريم الذي هن فيه.. وكان ذلك على الله يسيرا .. لا تمنعه ولا تصعبه مكانتهن من رسول الله المختار. كما قد يتبادر إلى الأذهان!

ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا .. والقنوت الطاعة والخضوع. والعمل الصالح هو الترجمة العملية للطاعة والخضوع.. نؤتها أجرها مرتين .. كما أن العذاب يضاعف للمقارفة ضعفين. وأعتدنا لها رزقا كريما .. فهو حاضر مهيأ ينتظرها فوق مضاعفة الأجر. فضلا من الله ومنة.

ثم يبين لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء; ويقرر واجباتهن في معاملة الناس، وواجبهن في عبادة الله، وواجبهن في بيوتهن; ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم، وحياطته وصيانته من الرجس; ويذكرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، مما يلقي عليهن تبعات خاصة، ويفردهن بين نساء العالمين:

يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن. فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة. إن الله كان لطيفا خبيرا ..

لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي - كغيره من المجتمعات في ذلك الحين - ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع، وإشباع الغريزة. ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة.

كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية. ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة.

هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس; وانحطاط الذوق الجمالي; والاحتفال بالجسديات العارمة، وعدم [ ص: 2858 ] الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف.. يبدو هذا في أشعار الجاهلين حول جسد المرأة، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه، وإلى أغلظ معانيه!

فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة; ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين; فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد، وإطفاء لفورة اللحم والدم، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة، بينهما مودة ورحمة، وفي اتصالهما سكن وراحة; ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان، وعمرة الأرض، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة الله.

كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة; ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي; ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج; ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات.

والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن. وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع; وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي، وبالنظافة في علاقات الجنسين، وصيانتها من كل تبذل، وتصفيتها من عرامة الشهوة، حتى في العلاقات الجسدية المحضة.

وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا. وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس، وفي خاصة أنفسهن، وفي علاقتهن بالله. توجيه يقول لهن الله فيه: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا .

فلننظر في وسائل إذهاب الرجس، ووسائل التطهر، التي يحدثهن الله - سبحانه - عنها، ويأخذهن بها. وهن أهل البيت، وزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطهر من عرفت الأرض من النساء. ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيته الرفيع.

إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن، ورفيع مقامهن، وفضلهن على النساء كافة، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين. على أن يوفين هذا المكان حقه، ويقمن فيه بما يقتضيه:

التالي السابق


الخدمات العلمية