صفحة جزء
ولما كانت المسألة مسألة تقرير مبدأ جديد فقد مضى القرآن يؤكدها; ويزيل عنصر الغرابة فيها، ويردها إلى أصولها البسيطة المنطقية لتاريخية:

ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ..

فقد فرض له أن يتزوج زينب ، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء. وإذن فلا حرج في هذا الأمر، وليس النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بدعا من الرسل.

سنة الله في الذين خلوا من قبل ..

فهو أمر يمضي وفق سنة الله التي لا تتبدل. والتي تتعلق بحقائق الأشياء، لا بما يحوطها من تصورات وتقاليد مصطنعة لا تقوم على أساس.

وكان أمر الله قدرا مقدورا ..

فهو نافذ مفعول، لا يقف في وجهه شيء ولا أحد. وهو مقدر بحكمة وخبرة ووزن، منظور فيه إلى الغاية التي يريدها الله منه. ويعلم ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها. وقد أمر الله رسوله أن يبطل تلك العادة ويمحو آثارها عمليا، ويقرر بنفسه السابقة الواقعية. ولم يكن بد من نفاذ أمر الله.

وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل:

الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ..

فلا يحسبون للخلق حسابا فيما يكلفهم الله به من أمور الرسالة، ولا يخشون أحدا إلا الله الذي أرسلهم للتبليغ والعمل والتنفيذ.

وكفى بالله حسيبا ..

فهو وحده الذي يحاسبهم، وليس للناس عليهم من حساب.

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم فزينب ليست حليلة ابنه، وزيد ليس ابن محمد . إنما هو ابن حارثة. ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة.

والعلاقة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين جميع المسلمين - ومنهم زيد بن حارثة - هي علاقة النبي بقومه، وليس هو أبا لأحد منهم:

ولكن رسول الله وخاتم النبيين ..

ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية; وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير.

وكان الله بكل شيء عليما ..

فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، وما يصلحها; وهو الذي فرض على النبي ما فرض، واختار له [ ص: 2871 ] ما اختار. ليحل للناس أزواج أدعيائهم، إذا ما قضوا منهن وطرا، وانتهت حاجتهم منهن، وأطلقوا سراحهن.. قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء. ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين; ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين.

ثم يمضي السياق القرآني في ربط القلوب بهذا المعنى الأخير، ووصلهم بالله الذي فرض على رسوله ما فرض، واختار للأمة المسلمة ما اختار; يريد بها الخير، والخروج من الظلمات إلى النور:

يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا. هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما. تحيتهم يوم يلقونه سلام. وأعد لهم أجرا كريما ..

وذكر الله اتصال القلب به، والاشتغال بمراقبته; وليس هو مجرد تحريك اللسان. وإقامة الصلاة ذكر الله. بل إنه وردت آثار تكاد تخصص الذكر بالصلاة:

روى أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين، كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " ..

وإن كان ذكر الله أشمل من الصلاة. فهو يشمل كل صورة يتذكر فيها العبد ربه، ويتصل به قلبه. سواء جهر بلسانه بهذا الذكر أم لم يجهر. والمقصود هو الاتصال المحرك الموحي على أية حال.

وإن القلب ليظل فارغا أو لاهيا أو حائرا حتى يتصل بالله ويذكره ويأنس به. فإذا هو مليء جاد، قار، يعرف طريقه، ويعرف منهجه، ويعرف من أين وإلى أين ينقل خطاه!

ومن هنا يحض القرآن كثيرا، وتحض السنة كثيرا، على ذكر الله. ويربط القرآن بين هذا الذكر وبين الأوقات والأحوال التي يمر بها الإنسان، لتكون الأوقات والأحوال مذكرة بذكر الله ومنبهة إلى الاتصال به حتى لا يغفل القلب وينسى:

وسبحوه بكرة وأصيلا ..

وفي البكرة والأصيل خاصة ما يستجيش القلوب إلى الاتصال بالله، مغير الأحوال، ومبدل الظلال; وهو باق لا يتغير ولا يتبدل، ولا يحول ولا يزول. وكل شيء سواه يتغير ويتبدل، ويدركه التحول والزوال

وإلى جانب الأمر بذكر الله وتسبيحه، إشعار القلوب برحمة الله ورعايته، وعنايته بأمر الخلق وإرادة الخير لهم; وهو الغني عنهم، وهم الفقراء المحاويج، لرعايته وفضله:

هو الذي يصلي عليكم وملائكته، ليخرجكم من الظلمات إلى النور. وكان بالمؤمنين رحيما ..

وتعالى الله، وجلت نعمته، وعظم فضله، وتضاعفت منته; وهو يذكر هؤلاء العباد الضعاف المحاويج الفانين، الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا بقاء لهم ولا قرار. يذكرهم، ويعني بهم، ويصلي عليهم هو وملائكته، ويذكرهم بالخير في الملإ الأعلى فيتجاوب الوجود كله بذكرهم، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" ..

[ ص: 2872 ] ألا إنها لعظيمة لا يكاد الإدراك يتصورها. وهو يعلم أن هذه الأرض ومن عليها وما عليها إن هي إلا ذرة صغيرة زهيدة بالقياس إلى تلك الأفلاك الهائلة. وما الأفلاك وما فيها ومن فيها إلا بعض ملك الله الذي قال له:

كن. فكان!

هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور ..

ونور الله واحد متصل شامل; وما عداه ظلمات تتعدد وتختلف. وما يخرج الناس من نور الله إلا ليعيشوا في ظلمة من الظلمات، أو في الظلمات مجتمعة; وما ينقذهم من الظلام إلا نورالله الذي يشرق في قلوبهم، ويغمر أرواحهم، ويهديهم إلى فطرتهم. وهي فطرة هذا الوجود. ورحمة الله بهم وصلاة الملائكة ودعاؤها لهم، هي التي تخرجهم من الظلمات إلى النور حين تتفتح قلوبهم للإيمان: وكان بالمؤمنين رحيما ..

ذلك أمرهم في الدنيا دار العمل. فأما أمرهم في الآخرة دار الجزاء، فإن فضل الله لا يتخلى عنهم، ورحمته لا تتركهم; ولهم فيها الكرامة والحفاوة والأجر الكريم:

تحيتهم يوم يلقونه سلام، وأعد لهم أجرا كريما ..

سلام من كل خوف، ومن كل تعب، ومن كلكد.. سلام يتلقونه من الله تحمله إليهم الملائكة. وهم يدخلون عليهم من كل باب، يبلغونهم التحية العلوية. إلى جانب ما أعد لهم من أجر كريم.. فيا له من تكريم!

فهذا هو ربهم الذي يشرع لهم ويختار. فمن ذا الذي يكره هذا الاختيار؟!

فأما النبي الذي يبلغهم اختيار الله لهم; ويحقق بسنته العملية ما اختاره الله وشرعه للعباد، فيلتفت السياق التفاتة كذلك إلى بيان وظيفته وفضله على المؤمنين في هذا المقام:

يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا. ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ..

فوظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم أن يكون " شاهدا " عليهم; فليعملوا بما يحسن هذه الشهادة التي لا تكذب ولا تزور، ولا تبدل، ولا تغير. وأن يكون " مبشرا " لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران، ومن فضل وتكريم. وأن يكون " نذيرا " للغافلين بما ينتظر المسيئين من عذاب ونكال، فلا يؤخذوا على غرة، ولا يعذبوا إلا بعد إنذار. وداعيا إلى الله .. لا إلى دنيا، ولا إلى مجد، ولا إلى عزة قومية، ولا إلى عصبية جاهلية، ولا إلى مغنم، ولا إلى سلطان أو جاه. ولكن داعيا إلى الله. في طريق واحد يصل إلى الله بإذنه .. فما هو بمبتدع، ولا بمتطوع، ولا بقائل من عنده شيئا. إنما هو إذن الله له وأمره لا يتعداه. وسراجا منيرا .. يجلو الظلمات، ويكشف الشبهات، وينير الطريق، نورا هادئا هاديا كالسراج المنير في الظلمات.

وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من النور. جاء بالتصور الواضح البين النير لهذا الوجود، ولعلاقة الوجود بالخالق، ولمكان الكائن الإنساني من هذا الوجود وخالقه، وللقيم التي يقوم عليها الوجود كله، ويقوم عليها وجود هذا الإنسان فيه; وللمنشإ والمصير، والهدف والغاية، والطريق والوسيلة. في قول فصل لا شبهة فيه ولا غموض. وفي أسلوب يخاطب الفطرة خطابا مباشرا وينفذ إليها من أقرب السبل وأوسع الأبواب وأعمق المسالك والدروب!

[ ص: 2873 ] ويكرر ويفصل في وظيفة الرسول مسألة تبشير المؤمنين: وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا .. بعد ما أجملها في قوله: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا .. زيادة في بيان فضل الله ومنته على المؤمنين، الذين يشرع لهم على يدي هذا النبي، ما يؤول بهم إلى البشرى والفضل الكبير.

وينهي هذا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بألا يطيع الكافرين والمنافقين، وألا يحفل أذاهم له وللمؤمنين، وأن يتوكل على الله وحده وهو بنصره كفيل:

ولا تطع الكافرين والمنافقين، ودع أذاهم، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ..

وهو ذات الخطاب الوارد في أول السورة، قبل ابتداء التشريع والتوجيه، والتنظيم الاجتماعي الجديد. بزيادة توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يحفل أذى الكافرين والمنافقين; وألا يتقيه بطاعتهم في شيء أو الاعتماد عليهم في شيء. فالله وحده هو الوكيل وكفى بالله وكيلا ..

وهكذا يطول التقديم والتعقيب على حادث زينب وزيد، وإحلال أزواج الأدعياء، والمثل الواقعي الذي كلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يشي بصعوبة هذا الأمر، وحاجة النفوس فيه إلى تثبيت الله وبيانه، وإلى الصلة بالله والشعور بما في توجيهه من رحمة ورعاية. كي تتلقى ذلك الأمر بالرضى والقبول والتسليم..

التالي السابق


الخدمات العلمية