صفحة جزء
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (29) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30) وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا [ ص: 2907 ] الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (33) وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (34) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين (35) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون (37) والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون (38) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39) ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم .بهم مؤمنون (41) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون (42)

هذه الجولة تتناول موقف الذين كفروا مما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف المترفين من كل رسالة، وهم الذين تغرهم أموالهم وأولادهم، وما يجدون من أعراض هذه الدنيا في أيديهم، فيحسبونها دليلا على اختيارهم وتفضيلهم; ويحسبون أنها مانعتهم من العذاب في الدنيا والآخرة. ومن ثم يعرض عليهم مشاهدهم في الآخرة، كأنها واقعة، ليروا إن كان شيء من ذلك نافعا لهم أو واقيا. وفي هذه المشاهد يتضح كذلك أنه لا الملائكة ولا الجن الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويستعينونهم يملكون لهم في الآخرة شيئا.. وفي خلال الجدل يوضح القرآن حقيقة القيم التي لها ثقل في ميزان الله; فتنكشف القيم الزائفة التي يعتزون بها في الحياة ويتقرر أن بسط الرزق وقبضه أمران يجريان وفق إرادة الله، وليسا دليلا على رضى أو غضب ولا على قربى أو بعد. إنما ذلك ابتلاء..

وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل: لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ..

يجيء هذا البيان بعد الجولة الماضية، وما فيها من تقرير فردية التبعة; وأنه ليس بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل إلا الدعوة والبيان، وأمرهم بعد ذلك إلى الله.

ويتبعه هنا بيان وظيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهلهم بحقيقتها; واستعجالهم له بما يعدهم ويوعدهم [ ص: 2908 ] من الجزاء; وتقرير أن ذلك موكول إلى موعده المقدور له في غيب الله:

وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ..

هذه هي حدود الرسالة العامة للناس جميعا.. التبشير والإنذار. وعند هذا الحد تنتهي; أما تحقيق هذا التبشير وهذا الإنذار فهو من أمر الله:

ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ ..

وهذا السؤال يوحي بجهلهم لوظيفة الرسول; وعدم إدراكهم لحدود الرسالة. والقرآن حريص على تجريد عقيدة التوحيد. فما محمد إلا رسول محدد الوظيفة. وهو قائم في حدود وظيفته لا يتخطاها. والله هو صاحب الأمر. هو الذي أرسله، وهو الذي حدد له عمله; وليس من عمله أن يتولى - ولا حتى أن يعلم - تحقيق الوعد والوعيد.. ذلك موكول إلى ربه، وهو يعرف حدوده. فلا يسأل مجرد سؤال عن شيء لم يطلعه عليه ربه، ولم يكل إليه أمره. وربه يكلفه أن يرد عليهم ردا معينا فيقوم به:

قل: لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ..

وكل ميعاد يجيء في أجله الذي قدره الله له. لا يستأخر لرغبة أحد، ولا يستقدم لرجاء أحد. وليس شيء من هذا عبثا ولا مصادفة. فكل شيء مخلوق بقدر. وكل أمر متصل بالآخر. وقدر الله يرتب الأحداث والمواعيد والآجال وفق حكمته المستورة التي لا يدركها أحد من عباده إلا بقدر ما يكشف الله له.

والاستعجال بالوعد والوعيد دليل على عدم إدراك هذه الحقيقة الكلية. ومن ثم فإن أكثر الناس لا يعلمون. وعدم العلم يقودهم إلى السؤال والاستعجال.

وقال الذين كفروا: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ..

فهو العناد والإصرار ابتداء على رفض الهدى في كل مصادره. لا القرآن، ولا الكتب التي سبقته، والتي تدل على صدقه. فلا هذا ولا ذاك هم مستعدون للإيمان به لا اليوم ولا الغد. ومعنى هذا أنهم يصرون على الكفر، ويجزمون عن قصد بأنهم لن ينظروا في دلائل الهدى كائنة ما كانت. فهو العمد إذن وسبق الإصرار!

عندئذ يجبههم بمشهدهم يوم القيامة، وفيه جزاء هذا الإصرار:

ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم، يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكنا مؤمنين! قال الذين استكبروا للذين استضعفوا: أنحن صددناكم عن الهدى، بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين! وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا.. وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا. هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟ ..

ذلك كان قولهم في الدنيا: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه .. فلو ترى قولهم في موقف آخر. لو ترى هؤلاء الظالمين وهم موقوفون على غير إرادة منهم ولا اختيار; إنما هم مذنبون بالوقوف في انتظار الجزاء عند ربهم .. ربهم الذي يجزمون بأنهم لن يؤمنوا بقوله وكتبه. ثم ها هم أولاء موقوفون عنده! لو ترى يومئذ لرأيت هؤلاء الظالمين يلوم بعضهم بعضا، ويؤنب بعضهم بعضا، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض: يرجع بعضهم إلى بعض القول ..فماذا يرجعون من القول؟

[ ص: 2909 ] يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكنا مؤمنين ..

فيلقون على الذين استكبروا تبعة الوقفة المرهوبة المهينة، وما يتوقعون بعدها من البلاء! يقولون لهم هذه القولة الجاهرة اليوم; ولم يكونوا في الدنيا بقادرين على مواجهتهم هذه المواجهة. كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم، والكرامة التي منحها إياهم، والإدراك الذي أنعم به عليهم. أما اليوم وقد سقطت القيم الزائفة، وواجهوا العذاب الأليم، فهم يقولونها غير خائفين ولا مبقين! لولا أنتم لكنا مؤمنين !

ويضيق الذين استكبروا بالذين استضعفوا. فهم في البلاء سواء. وهؤلاء الضعفاء يريدون أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء! وعندئذ يردون عليهم باستنكار، ويجبهونهم بالسب الغليظ:

قال الذين استكبروا للذين استضعفوا: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين ! فهو التخلي عن التبعة، والإقرار بالهدى، وقد كانوا في الدنيا لا يقيمون وزنا للمستضعفين ولا يأخذون منهم رأيا، ولا يعتبرون لهم وجودا، ولا يقبلون منهم مخالفة ولا مناقشة! أما اليوم - وأما العذاب - فهم يسألونهم في إنكار: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ .. بل كنتم مجرمين .. من ذات أنفسكم، لا تهتدون، لأنكم مجرمون!

ولو كانوا في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة. ولكنهم في الآخرة حيث تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة; وتتفتح العيون المغلقة وتظهر الحقائق المستورة. ومن ثم لا يسكت المستضعفون ولا يخنعون، بل يجبهون المستكبرين بمكرهم الذي لم يكن يفتر نهارا ولا ليلا للصد عن الهدى; وللتمكين للباطل، ولتلبيس الحق، وللأمر بالمنكر، ولاستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء:

وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار، إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ..

ثم يدرك هؤلاء وهؤلاء أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء، ولا ينجي المستكبرين ولا المستضعفين.

فلكل جريمته وإثمه. المستكبرون عليهم وزرهم، وعليهم تبعة إضلال الآخرين وإغوائهم. والمستضعفون عليهم وزرهم، فهم مسؤولون عن اتباعهم للطغاة، لا يعفيهم أنهم كانوا مستضعفين. لقد كرمهم الله بالإدراك والحرية، فعطلوا الإدراك وباعوا الحرية; ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولا; وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مستذلين. فاستحقوا العذاب جميعا; وأصابهم الكمد والحسرة وهم يرون العذاب حاضرا لهم مهيأ:

وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ..

وهي حالة الكمد الذي يدفن الكلمات في الصدور، فلا تفوه بها الألسنة، ولا تتحرك بها الشفاه.

ثم أخذهم العذاب المهين الغليظ الشديد:

وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ..

ثم يلتفت السياق يحدث عنهم وهم مسحوبون في الأغلال، مهملا خطابهم إلى خطاب المتفرجين!

هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟ ..

ويسدل الستار على المستكبرين والمستضعفين من الظالمين. وكلاهما ظالم. هذا ظالم بتجبره وطغيانه وبغيه وتضليله. وهذا ظالم بتنازله عن كرامة الإنسان، وإدراك الإنسان، وحرية الإنسان، وخنوعه وخضوعه للبغي والطغيان.. وكلهم في العذاب سواء. لا يجزون إلا ما كانوا يعملون..

[ ص: 2910 ] يسدل الستار وقد شهد الظالمون أنفسهم في ذلك المشهد الحي الشاخص. شهدوا أنفسهم هناك وهم بعد أحياء في الأرض. وشهدهم غيرهم كأنما يرونهم. وفي الوقت متسع لتلافي ذلك الموقف لمن يشاء!

ذلك الذي قاله المترفون من كبراء قريش قاله قبلهم كل مترف أمام كل رسالة:

وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا بما أرسلتم به كافرون ..

فهي قصة معادة، وموقف مكرور، على مدار الدهور. وهو الترف يغلظ القلوب، ويفقدها الحساسية; ويفسد الفطرة ويغشيها فلا ترى دلائل الهداية; فتستكبر على الهدى وتصر على الباطل، ولا تتفتح للنور.

والمترفون تخدعهم القيم الزائفة والنعيم الزائل، ويغرهم ما هم فيه من ثراء وقوة، فيحسبونه مانعهم من عذاب الله; ويخالون أنه آية الرضى عنهم، أو أنهم في مكان أعلى من الحساب والجزاء:

وقالوا: نحن أكثر أموالا وأولادا، وما نحن بمعذبين ..

والقرآن يضع لهم ميزان القيم كما هي عند الله ويبين لهم أن بسط الرزق وقبضه، ليست له علاقة بالقيم الثابتة الأصيلة; ولا يدل على رضى ولا غضب من الله; ولا يمنع بذاته عذابا ولا يدفع إلى عذاب. إنما هو أمر منفصل عن الحساب والجزاء، وعن الرضى والغضب، يتبع قانونا آخر من سنن الله:

التالي السابق


الخدمات العلمية