صفحة جزء
[ ص: 2912 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين (43) وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير (44) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير (45) قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (46) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد (47) قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب (48) قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (49) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب (50) ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51) وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب (54)

هذا الشوط الأخير في السورة يبدأ بالحديث عن المشركين، ومقولاتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن القرآن الذي جاء به; ويذكرهم بما وقع لأمثالهم، ويريهم مصرع الغابرين الذين أخذهم النكير في الدنيا، وهم كانوا أقوى منهم وأعلم وأغنى..

ويعقب هذا عدة إيقاعات عنيفة كأنما هي مطارق متوالية. يدعوهم في أول إيقاع منها إلى أن يقوموا لله متجردين ثم يتفكروا غير متأثرين بالحواجز التي تمنعهم من الهدى ومن النظر الصحيح. وفي الإيقاع الثاني يدعوهم إلى التفكير في حقيقة البواعث التي تجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يلاحقهم بالدعوة، وليس له من وراء ذلك نفع، ولا هو يطلب على ذلك أجرا، فما لهم يتشككون في دعوته ويعرضون؟ ثم تتوالى الإيقاعات: قل. قل. قل. وكل منها يهز القلب هزا ولا يتماسك له قلب به بقية من حياة وشعور!

[ ص: 2913 ] ويختم الشوط وتختم معه السورة بمشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة، يناسب إيقاعه تلك الإيقاعات السريعة العنيفة.

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. وقالوا: ما هذا إلا إفك مفترى. وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين. وما آتيناهم من كتب يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير. وكذب الذين من قبلهم - وما بلغوا معشار ما آتيناهم - فكذبوا رسلي، فكيف كان نكير؟ ..

لقد قابلوا الحق الواضح البين الذي يتلوه عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برواسب غامضة من آثار الماضي، وتقاليد لا تقوم على أساس واضح، وليس لها قوام متماسك. ولقد أحسوا خطورة ما يواجههم به القرآن الكريم من الحق البسيط المستقيم المتماسك. أحسوا خطورته على ذلك الخليط المشوش من العقائد والعادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم فقالوا قولتهم تلك:

ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم ..

ولكن هذا وحده لا يكفي. فإن مجرد أنه يخالف ما كان عليه الآباء ليس مطعنا مقنعا لجميع العقول والنفوس. ومن ثم أتبعوا الادعاء الأول بادعاء آخر يمس أمانة المبلغ، ويرد قوله أنه جاء بما جاء به من عند الله:

وقالوا: ما هذا إلا إفك مفترى ..

والإفك هو الكذب والافتراء; ولكنهم يزيدونه توكيدا: ما هذا إلا إفك مفترى ..

ذلك ليشككوا في قيمته ابتداء، متى أوقعوا الشك في مصدره الإلهي.

ثم مضوا يصفون القرآن ذاته:

وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين ..

فهو كلام مؤثر يزلزل القلوب، فلا يكفي أن يقولوا: إنه مفترى. فحاولوا إذن أن يعللوا وقعه القاهر في القلوب. فقالوا: إنه سحر مبين!

فهي سلسلة من الاتهامات، حلقة بعد حلقة، يواجهون بها الآيات البينات كي يحولوا بينها وبين القلوب. ولا دليل لهم على دعواهم. ولكنها جملة من الأكاذيب لتضليل العامة والجماهير. أما الذين كانوا يقولون هذا القول - وهم الكبراء والسادة - فقد كانوا على يقين أنه قرآن كريم، فوق مقدور البشر، وفوق طاقة المتكلمين! وقد سبق في الظلال ما حدث به بعض هؤلاء الكبراء بعضا في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمر القرآن; وما دبروا بينهم من كيد ليصدوا به الجماهير عن هذا القرآن الذي يغلب القلوب ويأسر النفوس !

وقد كشف القرآن أمرهم، وهو يقرر أنهم أميون لم يؤتوا من قبل كتابا يقيسون به الكتب; ويعرفون به الوحي; فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتابا وليس وحيا، وليس من عند الله. ولم يرسل إليهم من قبل رسول فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون:

وما آتيناهم من كتب يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير !

[ ص: 2914 ] ويلمس قلوبهم بتذكيرهم بمصارع الذين كذبوا من قبل. وهم لم يؤتوا معشار ما أوتي أولئك الغابرون. من علم، ومن مال، ومن قوة، ومن تعمير. فلما كذبوا الرسل أخذهم النكير. أي الهجوم المدوي المنكر الشديد:

وكذب الذين من قبلهم - وما بلغوا معشار ما آتيناهم - فكذبوا رسلي. فكيف كان نكير؟ ..

ولقد كان النكير عليهم مدمرا مهلكا. وكانت قريش تعرف مصارع بعضهم في الجزيرة. فهذا التذكير يكفي. وهذا السؤال التهكمي فكيف كان نكير؟ سؤال موح يلمس قلوب المخاطبين. وهم يعرفون كيف كان ذلك النكير!

وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق، ومعرفة الافتراء من الصدق، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل:

قل: إنما أعظكم بواحدة.. أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنة. إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ..

إنها دعوة إلى القيام لله. بعيدا عن الهوى. بعيدا عن المصلحة. بعيدا عن ملابسات الأرض. بعيدا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله. بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة. والمؤثرات الشائعة في الجماعة.

دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة; ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها.

دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي، بعيدا عن الضجيج والخلط واللبس; والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة.

وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة. منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات. وعلى مراقبة الله وتقواه.

وهي بواحدة .. إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق. القيام لله.. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.

أن تقوموا لله. مثنى وفرادى .. مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء.. وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق.

ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنة .. فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة. وما يقول شيئا يدعو إلى التظنن بعقله ورشده. إن هو إلا القول المحكم القوي المبين.

إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ..

لمسة تصور العذاب الشديد وشيكا أن يقع، وقد سبقه النذير بخطوة لينقذ من يستمع. كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق. وهو تصوير - فوق أنه صادق - بارع موح مثير..

[ ص: 2915 ] قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم بشير ابن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريرة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما، فنادى ثلاث مرات: " أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم. فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه. أيها الناس آتيتم. أيها الناس آتيتم. أيها الناس آتيتم " ..

وروي بهذا الإسناد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بعثت أنا والساعة جميعا. إن كادت لتسبقني " ..

ذلك هو الإيقاع الأول المؤثر الموحي. يتبعه الإيقاع الثاني:

قل: ما سألتكم من أجر فهو لكم. إن أجري إلا على الله. وهو على كل شيء شهيد ..

دعاهم في المرة الأولى إلى التفكر الهادئ البريء.. ما بصاحبكم من جنة.. ويدعوهم هنا أن يفكروا ويسألوا أنفسهم عما يدعوه إلى القيام بإنذارهم بين يدي عذاب شديد. ما مصلحته؟ ما بواعثه؟ ماذا يعود عليه؟ ويأمره أن يلمس منطقهم ويوقظ وجدانهم إلى هذه الحقيقة في صورة موحية:

قل: ما سألتكم من أجر فهو لكم !

خذوا أنتم الأجر الذي طلبته منكم! وهو أسلوب فيه تهكم. وفيه توجيه. وفيه تنبيه.

إن أجري إلا على الله ..

هو الذي كلفني. وهو الذي يأجرني. وأجره هو الذي أتطلع إليه. ومن يتطلع إلى ما عند الله فكل ما عند الناس هين عنده هزيل زهيد لا يستحق التفكير.

وهو على كل شيء شهيد ..

يعلم ويرى ولا يخفى عليه شيء. وهو علي شهيد. فيما أفعل وفيما أنوي وفيما أقول.

ويشتد الإيقاع الثالث وتقصر خطاه:

قل: إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ..

وهذا الذي جئتكم به هو الحق. الحق القوي الذي يقذف به الله. فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟ إنه تعبير مصور مجسم متحرك. وكأنما الحق قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق.. يقذف بها الله علام الغيوب فهو يقذف بها عن علم، ويوجهها على علم، ولا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية، ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سد يعوق. فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور!

ويتلوه الإيقاع الرابع في مثل عنفه وسرعته:

قل: جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد ..

جاء هذا الحق في صورة من صوره، في الرسالة، وفي قرآنها، وفي منهجها المستقيم. قل: جاء الحق. أعلن هذا الإعلان. وقرر هذا الحدث. واصدع بهذا النبأ. جاء الحق. جاء بقوته. جاء بدفعته. جاء باستعلائه وسيطرته وما يبدئ الباطل وما يعيد .. فقد انتهى أمره. وما عادت له حياة، وما عاد له مجال، وقد تقرر مصيره وعرف أنه إلى زوال.

إنه الإيقاع المزلزل، الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال.

[ ص: 2916 ] وإنه لكذلك. فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح. ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم. ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق. إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق. غلبة الناس لا المبادئ. وهذه موقوتة ثم تزول. أما الحق فواضح بين صريح.

والإيقاع الأخير:

قل: إن ضللت فإنما أضل على نفسي. وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي. إنه سميع قريب ..

فلا عليكم إذن إن ضللت. فإنما أضل على نفسي. وإن كنت مهتديا فإن الله هو الذي هداني بوحيه، لا أملك لنفسي منه شيئا إلا بإذنه. وأنا تحت مشيئته أسير فضله.

إنه سميع قريب ..

وهكذا كانوا يجدون الله. هكذا كانوا يجدون صفاته هذه في نفوسهم. كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية. كانوا يحسون أن الله يسمع لهم وهو قريب منهم. وأنه معنى بأمرهم عناية مباشرة; وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا واسطة. وأنه لا يهملها ولا يكلها إلى سواه. ومن ثم كانوا يعيشون في أنس بربهم. في كنفه. في جواره. في عطفه. في رعايته. ويجدون هذا كله في نفوسهم حيا، واقعا، بسيطا، وليس معنى ولا فكرة ولا مجرد تمثيل وتقريب.

إنه سميع قريب ..

وأخيرا يجيء الختام في مشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة المترددة بين الدنيا والأخرى. كأنما هو مجال واحد، وهم كرة يتقاذفها السياق في المشهد السريع العنيف:

ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب. وقالوا: آمنا به. وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد. وحيل بينهم وبين ما يشتهون، كما فعل بأشياعهم من قبل، إنهم كانوا في شك مريب ..

ولو ترى .. فالمشهد معروض للأنظار. إذ فزعوا .. من الهول الذي فوجئوا به. وكأنما أرادوا الإفلات فلا فوت ولا إفلات وأخذوا من مكان قريب .. ولم يبعدوا في محاولتهم البائسة وحركتهم المذهولة.

وقالوا: آمنا به .. الآن بعد فوات الأوان.. وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ وكيف يتناولون الإيمان من مكانهم هذا. ومكان الإيمان بعيد عنهم فقد كان ذلك في الدنيا، فضيعوه!

وقد كفروا به من قبل .. فانتهى الأمر، ولم يعد لهم أن يحاولوه اليوم!

ويقذفون بالغيب من مكان بعيد .. ذلك حين أنكروا هذا اليوم، وهو غيب كان، فلم يكن لهم على إنكاره من دليل، إنما كانوا يقذفون بالغيب من مكان بعيد. واليوم يحاولون تناول الإيمان به من مكان كذلك بعيد!

وحيل بينهم وبين ما يشتهون .. من الإيمان في غير موعده، والإفلات من العذاب الذي يشهدونه، والنجاة من الخطر الذي يواجهونه. كما فعل بأشياعهم من قبل .. ممن أخذهم الله، فطلبوا النجاة بعد نفاذ الأمر، وبعد أن لم يعد منه مفر.

إنهم كانوا في شك مريب .. فها هو ذا اليقين بعد الشك المريب!

[ ص: 2917 ] وهكذا تختم السورة في هذا الإيقاع السريع العنيف الشديد. وتختم بمشهد من مشاهد القيامة; يثبت القضية التي عليها التركيز والتوكيد في السورة. كما مضى في نهاية كل شوط فيها وفي ثناياها. وقد بدأت السورة بهذه القضية وختمت بها هذا الختام العنيف.

التالي السابق


الخدمات العلمية