صفحة جزء
[ ص: 2958 ] يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم. لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون. وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون. وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. إنما تنذر من اتبع الذكر، وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم. إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ..

يقسم الله –سبحانه - بهذين الحرفين: "يا. سين" كما يقسم بالقرآن الحكيم، وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور; والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن، وأن آية كونه من عند الله، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم; ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف.

ويصف القرآن - وهو يقسم به - بأنه " القرآن الحكيم " . والحكمة صفة العاقل، والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة، وهي من مقتضيات أن يكون حكيما، ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها.فإن لهذا القرآن لروحا!. وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك! وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك! وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله! ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره; ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن، كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب!.

والقرآن حكيم، يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه، ويضرب على الوتر الحساس في قلبه، ويخاطبه بقدر، ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه.

والقرآن حكيم، يربي بحكمة، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم، منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم، ويقرر للحياة نظاما كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم.

يقسم الله –سبحانه - بياء وسين والقرآن الحكيم على حقيقة الوحي والرسالة إلى الرسول الكريم:

إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم ..

وما به –سبحانه - من حاجة إلى القسم، ولكن هذا القسم منه - جل جلاله - بالقرآن وحروفه، يخلع على المقسم به عظمة وجلالا، فما يقسم الله –سبحانه - إلا بأمر عظيم، يرتفع إلى درجة القسم به واليمين!.

إنك لمن المرسلين .. والتعبير على هذا النحو يوحي بأن إرسال الرسل أمر مقرر، له سوابق مقررة، فليس هو الذي يراد إثباته، إنما المراد أن يثبت هو أن محمد - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المرسلين، ويخاطبه هو بهذا القسم - ولا يوجهه إلى المنكرين المكذبين - ترفعا بالقسم وبالرسول وبالرسالة عن أن تكون موضع جدل أو مناقشة، إنما هو الإخبار المباشر من الله للرسول.

إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم ..

وهذا بيان لطبيعة الرسالة بعد بيان حقيقة الرسول، وطبيعة هذه الرسالة الاستقامة. فهي قائمة كحد السيف لا عوج فيها ولا انحراف، ولا التواء فيها ولا ميل، الحق فيها واضح لا غموض فيه ولا التباس، ولا يميل مع هوى ولا ينحرف مع مصلحة، يجده من يطلبه في يسر وفي دقة وفي خلوص.

وهي لاستقامتها - بسيطة لا تعقيد فيها ولا لف ولا دوران، لا تعقد الأمور ولا توقع في إشكالات من القضايا [ ص: 2959 ] والتصورات والأشكال الجدلية، وإنما تصدع بالحق في أبسط صورة من صوره، وأعراها عن الشوائب والأخلاط، وأغناها عن الشرح، وتفصيص العبارات وتوليد الكلمات، والدخول بالمعاني في الدروب والمنحنيات! يمكن أن يعيش بها ومعها البادي والحاضر، والأمي والعالم، وساكن الكوخ وساكن العمارة; ويجد فيها كل حاجته; ويدرك منها ما تستقيم به حياته ونظامه وروابطه في يسر ولين.

وهي مستقيمة مع فطرة الكون وناموس الوجود، وطبيعة الأشياء والأحياء حول الإنسان، فلا تصدم طبائع الأشياء، ولا تكلف الإنسان أن يصدمها، إنما هي مستقيمة على نهجها، متناسقة معها، متعاونة كذلك مع سائر القوانين التي تحكم هذا الوجود وما فيه ومن فيه.

وهي من ثم مستقيمة على الطريق إلى الله، واصلة إليه موصلة به، لا يخشى تابعها أن يضل عن خالقه، ولا أن يلتوي عن الطريق إليه، فهو سالك دربا مستقيما واصلا ينتهي به إلى رضوان الخالق العظيم.

والقرآن هو دليل هذا الصراط المستقيم، وحيثما سار الإنسان معه وجد هذه الاستقامة في تصويره للحق، وفي التوجيه إليه، وفي أحكامه الفاصلة في القيم، ووضع كل قيمة في موضعها الدقيق.

تنزيل العزيز الرحيم ..

يعرف الله عباده بنفسه في مثل هذه المواضع، ليدركوا حقيقة ما نزل إليهم؛ فهو العزيز القوي الذي يفعل ما يريد، وهو الرحيم بعباده الذي يفعل بهم ما يفعل، وهو يريد بهم الرحمة فيما يفعل.

فأما حكمة هذا التنزيل فهي الإنذار والتبليغ:

لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ..

والغفلة أشد ما يفسد القلوب، فالقلب الغافل قلب معطل عن وظيفته، معطل عن الالتقاط والتأثر والاستجابة، تمر به دلائل الهدى أو يمر بها دون أن يحسها أو يدركها، ودون أن ينبض أو يستقبل، ومن ثم كان الإنذار هو أليق شيء بالغفلة التي كان فيها القوم، الذين مضت الأجيال دون أن ينذرهم منذر، أو ينبههم منبه.فهم من ذرية إسماعيل ولم يكن لهم بعده من رسول، فالإنذار قد يوقظ الغافلين المستغرقين في الغفلة، الذين لم يأتهم ولم يأت آباءهم نذير، ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين; وعما نزل بهم من قدر الله، وفق ما علم الله من قلوبهم ومن أمرهم، ما كان منه وما سيكون:

لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون .

لقد قضي في أمرهم، وحق قدر الله على أكثرهم، بما علمه من حقيقتهم، وطبيعة مشاعرهم، فهم لا يؤمنون، وهذا هو المصير الأخير للأكثرين، فإن نفوسهم محجوبة عن الهدى مشدودة عن رؤية دلائله أو استشعارها.

وهنا يرسم مشهدا حسيا لهذه الحالة النفسية، يصورهم كأنهم مغلولون ممنوعون قسرا عن النظر، محال بينهم وبين الهدى والإيمان بالحواجز والسدود، مغطى على أبصارهم فلا يبصرون:

إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا، فهي إلى الأذقان، فهم مقمحون. وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا. فأغشيناهم فهم لا يبصرون ..

إن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم، موضوعة تحت أذقانهم، ومن ثم فإن رءوسهم مرفوعة قسرا، لا يملكون أن ينظروا بها إلى الأمام!. ومن ثم فهم لا يملكون حرية النظر والرؤية وهم في هذا المشهد العنيف!.

[ ص: 2960 ] وهم إلى هذا محال بينهم وبين الحق والهدى بسد من أمامهم وسد من خلفهم; فلو أرخي الشد فنظروا لم تنفذ أبصارهم كذلك من هذه السدود!. وقد سدت عليهم سبيل الرؤية وأغشيت أبصارهم بالكلال!.

ومع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلا عنيفا كهذا بينهم وبينه، وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي، وإذا لم تكن الرءوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع، فإن نفوسهم وبصئرهم كذلك، مشدودة عن الهدى قسرا وملفوتة عن الحق لفتا، وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك.وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود، وهو يصدع بالحجة، ويدلي بالبرهان، وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان.

وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ..

فلقد قضى الله فيهم بأمره، بما علمه من طبيعة قلوبهم التي لا ينفذ إليها الإيمان، ولا ينفع الإنذار قلبا غير مهيئا للإيمان، مشدود عنه، محال بينه وبينه بالسدود، فالإنذار لا يخلق القلوب، إنما يوقظ القلب الحي المستعد للتلقي:

إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، فبشره بمغفرة وأجر كريم ..

والذكر يراد به هنا القرآن - على الأرجح - والذي اتبع القرآن، وخشي الرحمن دون أن يراه، هو الذي ينتفع بالإنذار، فكأنه هو وحده الذي وجه إليه الإنذار، وكأنما الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خصه به، وإن كان قد عمم، إلا أن أولئك حيل بينهم وبين تلقيه، فانحصر في من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، وهذا يستحق التبشير بعد انتفاعه بالإنذار. فبشره بمغفرة وأجر كريم .. المغفرة عما يقع فيه من الخطايا غير مصر، والأجر الكريم على خشية الرحمن بالغيب، واتباعه لما أنزل الرحمن من الذكر، وهما متلازمان في القلب، فما تحل خشية الله في قلب إلا ويتبعها العمل بما أنزل، والاستقامة على النهج الذي أراد.

وهنا يؤكد وقوع البعث; ودقة الحساب، الذي لا يفوته شيء:

إنا نحن نحيي الموتى، ونكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ..

وإحياء الموتى هو إحدى القضايا التي استغرقت جدلا طويلا، وسيرد منه في هذه السورة أمثلة منوعة، وهو ينذرهم أن كل ما قدمت أيديهم من عمل، وكل ما خلفته أعمالهم من آثار، كلها تكتب وتحصى، فلا يند منها شيء ولا ينسى. والله –سبحانه - هو الذي يحيي الموتى، وهو الذي يكتب ما قدموا وآثارهم، وهو الذي يحصي كل شيء ويثبته، فلا بد إذن من وقوع هذا كله على الوجه الذي يليق بكل ما تتولاه يد الله.

والإمام المبين، واللوح المحفوظ، وأمثالها، أقرب تفسير لها هو علم الله الأزلي القديم وهو بكل شيء محيط.

وبعد عرض قضية الوحي والرسالة، وقضية البعث والحساب، في هذه الصورة التقريرية، يعود السياق ليعرضهما في صورة قصصية، تلمس القلب بما كان من مواقف التكذيب والإيمان وعواقبهما معروضة كالعيان:

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون. إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث، فقالوا: إنا إليكم مرسلون. قالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، وما أنزل الرحمن من شيء، إن أنتم إلا تكذبون. قالوا: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين. قالوا: إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم [ ص: 2961 ] منا عذاب أليم. قالوا: طائركم معكم، أإن ذكرتم؟ بل أنتم قوم مسرفون ..

ولم يذكر القرآن من هم أصحاب القرية ولا ما هي القرية، وقد اختلفت فيها الروايات، ولا طائل وراء الجري مع هذه الروايات.

وعدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئا في دلالة القصة وإيحائها، ومن ثم أغفل التحديد، ومضى إلى صميم العبرة ولبابها، فهي قرية أرسل الله إليها رسولين، كما أرسل موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - إلى فرعون وملئه. فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله، وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد فقالوا: إنا إليكم مرسلون ..

هنا اعتراض أهل القرية عليهم بالاعتراضات المكرورة في تاريخ الرسل والرسالات..

قالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا .. وما أنزل الرحمن من شيء .. إن أنتم إلا تكذبون ..

وهذا الاعتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والإدراك، كما يبدو فيه الجهل بوظيفة الرسول، فقد كانوا يتوقعون دائما أن يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته تكمن وراءه الأوهام والأساطير، أليس رسول السماء إلى الأرض فكيف لا تحيط به الأوهام والأساطير؟ كيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا أسرار فيها ولا ألغاز حولها؟! شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلئ بها الأسواق والبيوت؟!.

وهذه هي سذاجة التصور والتفكير، فالأسرار والألغاز ليست صفة ملازمة للنبوة والرسالة، وليست في هذه الصورة الساذجة الطفولية، وإن هنالك لسرا هائلا ضخما، ولكنه يتمثل في الحقيقة البسيطة الواقعة، حقيقة إيداع إنسان من هؤلاء البشر الاستعداد اللدني الذي يتلقى به وحي السماء، حين يختاره الله لتلقي هذا الوحي العجيب، وهو أعجب من أن يكون الرسول ملكا كما كانوا يقترحون!.

والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي.

النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به، وهم بشر، فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجا من الحياة يملكون هم أن يقلدوه.

ومن ثم كانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - معروضة لأنظار أمته، وسجل القرآن - كتاب الله الثابت - المعالم الرئيسية في هذه الحياة بأصغر تفصيلاتها وأحداثها، بوصفها تلك الصفحة المعروضة لأنظار أمته على مدار السنين والقرون، ومن هذه التفصيلات حياته المنزلية والشخصية، حتى خطرات قلبه سجلها القرآن في بعض الأحيان، لتطلع عليها الأجيال وترى فيها قلب ذلك النبي الإنسان.

ولكن هذه الحقيقة الواضحة القريبة هي التي ظلت موضع الاعتراض من بني الإنسان!.

ولقد قال أهل تلك القرية لرسلهم الثلاثة: ما أنتم إلا بشر مثلنا .. وقصدوا أنكم لستم برسل.. وما أنزل الرحمن من شيء .. مما تدعون أنه نزله عليكم من الوحي والأمر بأن تدعونا إليه. إن أنتم إلا تكذبون .. وتدعون أنكم مرسلون!

التالي السابق


الخدمات العلمية