صفحة جزء
وعجبوا كذلك من دعوته إياهم إلى عبادة الله الواحد. وهي أصدق كلمة وأحقها بالاستماع:

أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم، إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق ..

ويصور التعبير القرآني مدى دهشتهم من هذه الحقيقة الفطرية القريبة.. أجعل الآلهة إلها واحدا؟ كأنه الأمر الذي لا يتصوره متصور! إن هذا لشيء عجاب .. حتى البناء اللفظي عجاب يوحي بشدة العجب وضخامته وتضخيمه!

كما يصور طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة. وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئا غير ظاهرها; وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور، مدركون لما وراء هذه الدعوة من خبيء! وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد .. فليس هو الدين، وليست هي العقيدة، إنما هو شيء آخر يراد من وراء هذه الدعوة. شيء ينبغي أن تدعه الجماهير لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبآت وإدراك المناورات! وتنصرف هي إلى عادتها الموروثة، وآلهتها المعروفة، ولا تعني نفسها بما وراء المناورة الجديدة! فهناك أربابها الكفيلون بمقاومتها. فلتطمئن الجماهير، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم!

إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، والبحث وراء الحقيقة، وتدبر ما يواجههم من حقائق خطرة. ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة، وخطر على الكبراء، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير. وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل!

[ ص: 3010 ] ثم يموهون على الناس بظواهر العقيدة القريبة منهم. عقيدة أهل الكتاب. بعد ما دخلت إليها الأساطير التي حرفتها عن التوحيد الخالص فيقولون:

ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة. إن هذا إلا اختلاق .

وكانت عقيدة التثليث قد شاعت في المسيحية. وأسطورة العزيز قد شاعت كذلك في اليهودية. فكبراء قريش كانوا يشيرون إلى هذا وهم يقولون: " ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله. الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فما يقول إذن إلا اختلاقا!

ولقد حرص الإسلام حرصا شديدا على تجريد عقيدة التوحيد وتخليصها من كل ما علق بها من الأساطير والأوشاب والانحرافات التي طرأت على العقائد التي سبقته. حرص هذا الحرص لأن التوحيد حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها هذا الوجود كله ويشهد بها هذا الوجود شهادة واضحة أكيدة. ولأن هذا التوحيد في الوقت ذاته قاعدة لا تصلح الحياة البشرية كلها في أصولها وفروعها إلا إذا قامت عليها.

ويحسن ونحن نستعرض مقاومة قريش لهذه العقيدة ودهشتها وعجبها من جعل الآلهة إلها واحدا. ومقاومة المشركين قبل قريش على مدار القرون ومدار الرسالات لهذه الحقيقة كذلك. وإصرار كل رسول عليها، وقيام كل رسالة على أساسها. والجهد الضخم الذي بذل في إقرار هذه الحقيقة في نفوس البشر على مدار الزمان.. يحسن أن نتوسع قليلا في بيان قيمة هذه الحقيقة.

إنها حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها الوجود، ويشهد بها كل ما في الوجود..

إن وحدة النواميس الكونية التي تتحكم في هذا الكون الذي نراه واضحة; وناطقة بأن الإرادة التي أنشأت هذه النواميس لا بد أن تكون واحدة.. وحيثما نظرنا إلى هذا الكون واجهتنا هذه الحقيقة، حقيقة وحدة النواميس. وحدة تشي بوحدة الإرادة.

كل ما في هذا الكون في حركة دائمة منتظمة.. الذرة الصغيرة وهي الوحدة الأولى لكل ما في الكون من شيء - حي أو غير حي - في حركة مستمرة. فهي مؤلفة من إلكترونات تتحرك حول النواة المؤلفة من بروتونات. كما تدور الكواكب حول الشمس في المجموعة الشمسية. وكما تدور المجرة المؤلفة من مجموعات شمسية ومن كتل سديمية حول نفسها.. واتجاه الدورة في الكواكب وفي الشمس وفي المجرة اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق. عكس دورة الساعة! .

والعناصر التي تتكون منها الأرض وبقية الكواكب السيارة واحدة. وعناصر النجوم هي كذلك من عناصر الأرض. والعناصر مؤلفة من ذرات. والذرات مؤلفة من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات.. كلها مؤلفة من هذه اللبنات الثلاث بلا استثناء..

وفي الوقت الذي ترد فيه المادة إلى ثلاث لبنات. يرد العلماء " القوى " إلى أصل واحد: الضوء والحرارة. الأشعة السينية، الأشعة اللاسلكية، الأشعة الجيمية. وكل إشعاع في الدنيا.. كلها صور متعددة لقوة واحدة. تلك القوة المغناطيسية الكهربائية. إنها جميعا تسير بسرعة واحدة، وما اختلافها إلا اختلاف موجة.

المادة ثلاث لبنات. والقوى موجات متأصلات.

ويأتي أينشتين وفي نظريته النسبية الخاصة، يكافئ بين المادة والقوى; ويقول: إن المادة والقوى شيء [ ص: 3011 ] سواء. وتخرج التجارب تصدق دعواه. وخرجت تجربة أخيرة صدقت دعواه بأعلى صوت تسمعه الدنيا. ذلك انفلاق الذرة في القنبلة اليودينوتية.

" المادة والقوى إذن شيء سواء " .

هذه هي الوحدة في تكوين الكون كما عرفها الإنسان أخيرا في تجاربه المحسوسة.. وهناك الوحدة الظاهرة في نظام الكون كما أشرنا إلى قانون الحركة الدائبة. ثم هي الحركة المنظمة المنسقة التي لا يشذ فيها شيء في هذا الكون. ولا يضطرب فيها شيء.. توازن هذه الحركة في جميع الكائنات بحيث لا يعطل بعضها بعضا ولا يصدم بعضها بعضا. وأقرب مثل هذه الكواكب والنجوم والمجرات الضخمة التي تسبح في الفضاء: وكل في فلك يسبحون .. والتي تشهد بأن مجريها في هذا الفضاء، المنظم لحركتها وأبعادها ومواقعها واحد لا يتعدد، عارف بطبيعتها وحركتها. مقدر لهذا كله في تصميم هذا الكون العجيب.

ونكتفي بهذه اللمحة الخاطفة في تتبع حقيقة الوحدة التي ينطق بها نظام هذا الكون ويشهد بها كل ما فيه.

وهي حقيقة لا يستقيم أمر هذه البشرية إلا عليها. فوضوح هذه الحقيقة في الضمير البشري ذو أهمية بالغة في تصور البشر للكون من حولهم، ولموضعهم هم في هذا الكون، ولعلاقتهم بكل ما فيه من أشياء وأحياء. ثم في تصورهم لله الواحد ولحقيقة ارتباطهم به، وبما عداه ومن عداه في هذا الوجود.. وكل ذلك ذو أهمية بالغة في تكييف مشاعر البشر وتصورهم لكل شؤون الحياة.

والمؤمن بالله الواحد، المدرك لمعنى هذه الوحدانية، يكيف علاقته بربه على هذا الأساس، ويضع علاقته بمن عدا الله وبما عداه، في موضعها الذي لا تتعداه. فلا تتوزع طاقاته ومشاعره بين آلهة مختلفة الأمزجة! ولا بين متسلطين عليه غير الله ممن خلق الله!

والمؤمن بأن الله الواحد هو مصدر هذا الوجود الواحد يتعامل مع الوجود ومن فيه وما فيه على أساس من التعارف والتعاون والألفة والمودة، يجعل للحياة طعما وشكلا غير ما لها في نفس من لا يؤمن بهذه الوحدة، ولا يحسها بينه وبين كل ما حوله ومن حوله.

والمؤمن بوحدة الناموس الإلهي في الكون يتلقى تشريعات الله له وتوجيهاته تلقيا خاصا، لينسق بين القانون الذي يحكم حياة البشر والناموس الذي يحكم الكون كله; ويؤثر قانون الله، لأنه هو الذي ينسق بين حركة البشر وحركة الكون العام.

وعلى الجملة فإن إدراك هذه الحقيقة ضروري لصلاح الضمير البشري واستقامته واستنارته وتصالحه مع الكون من حوله. وتنسيق حركته مع الحركة الكونية العامة. ووضوح الارتباطات بينه وبين خالقه. ثم بينه وبين الكون حوله. ثم بينه وبين كل ما في الكون من أحياء ومن أشياء! وما يتبع هذا من تأثرات أخلاقية وسلوكية واجتماعية وإنسانية عامة في كل مجال من مجالات الحياة .

ومن ثم كان هذا الحرص على إقرار عقيدة التوحيد. وكان هذا الجهد الموصول المكرور مع كل رسالة وكل رسول. وكان هذا الإصرار من الرسل - صلوات الله عليهم - على كلمة التوحيد بلا هوادة.

[ ص: 3012 ] وفي القرآن الكريم يتضح الحرص والجهد والإصرار في تكرار عرض قضية التوحيد ومقتضياتها في السور المكية على وجه التخصيص وفي السور المدنية كذلك في صور تناسب طبيعة الموضوعات التي تعالجها السور المدنية.

وهذه هي الحقيقة التي كان المشركون يعجبون ذلك العجب من إصرار محمد - صلى الله عليه وسلم - عليها ويحاورونه فيها ويداورونه، ويعجبون الناس منه ومنها، ويصرفونهم عنها بكل وسيلة.

وقد مضوا بعد هذا يعجبون من اختياره - صلى الله عليه وسلم - ليكون رسولا:

أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ ..

وما كان في هذا من غرابة. ولكنه كان الحسد. الحسد الذي يدعو إلى العناد والمكابرة والشقاق.

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حدث، أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا،فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوه أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض. لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرقوا.. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به كذلك! قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه! فقام عنه الأخنس وتركه..

فهو الحسد كما نرى. يقعد بأبي جهل عن الاعتراف بالحق الذي غالب نفسه عليه فغلبته ثلاث ليال! هو الحسد أن يكون محمد قد بلغ إلى ما لا مطمع فيه لطامع. وهو السر في قولة من كانوا يقولون:

أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ ..

وهم الذين كانوا يقولون: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم .. يقصدون بالقريتين مكة والطائف، وفيهما كان كبراء المشركين وعظماؤهم الحاكمون المسودون; الذين كانوا يتطلعون إلى السيادة عن طريق الدين، كلما سمعوا أن نبيا جديدا قد أطل زمانه. والذين صدموا صدمة الحسد والكبر حينما اختار الله - على علم - نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وفتح له من أبواب رحمته وأفاض عليه من خزائنها ما علم أنه يستحقه دون العالمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية