صفحة جزء
باب القصاص بين الرجال والنساء

قال الله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى وقال : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فظاهر ما ذكر من ظواهر الآي الموجبة للقصاص في الأنفس بين العبيد والأحرار موجب للقصاص بين الرجال والنساء فيها .

وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ، وابن شبرمة : " لا قصاص بين الرجال والنساء إلا في الأنفس " وروي عن ابن شبرمة رواية أخرى : أن بينهم قصاصا فيما دون النفس .

وقال ابن أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي : " القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في الأنفس وما دونها " إلا أن الليث قال : " إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه " .

وقال عثمان البتي : " إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به ، وأخذ من مالها نصف الدية ، وكذلك إن أصابته بجراحة " قال : " وإن كان هو الذي قتلها أو جرحها فعليه القود ، ولا يرد عليه شيء " . وقد روي عن السلف اختلاف في ذلك ، فروى قتادة عن سعيد بن المسيب : " أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة أقادهم بها " . وروي عن عطاء والشعبي ومحمد بن سيرين : أنه يقتل بها . واختلف عن علي عليه السلام فيها ، فروى ليث عن الحكم عن علي وعبد الله [ ص: 172 ] قالا : " إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود " . وروي عن عطاء ، والشعبي ، والحسن البصري أن عليا قال : " إن شاءوا قتلوه ، وأدوا نصف الدية ، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل " .

وروى أشعث عن الحسن في امرأة قتلت رجلا عمدا قال : " تقتل ، وترد نصف الدية " .

قال أبو بكر : ما روي عن علي من القولين في ذلك مرسل ؛ لأن أحدا من رواته لم يسمع من علي شيئا ، ولو ثبتت الروايتان كان سبيلهما أن تتعارضا ، وتسقطا فكأنه لم يرو عنه في ذلك شيء .

وعلى أن رواية الحكم في إيجاب القود دون المال أولى لموافقتها لظاهر الكتاب ، وهو قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى وسائر الآي الموجبة للقود ليس في شيء منها ذكر الدية ، وهو غير جائز أن يزيد في النص إلا بنص مثله ؛ لأن الزيادة في النص توجب النسخ .

حدثنا ابن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال : حدثنا حميد عن أنس بن مالك : أن الربيع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرض عليهم الأرش فأبوا ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله تكسر سن الربيع ؟ لا ، والذي بعثك بالحق فقال : يا أنس كتاب الله القصاص فعفا القوم ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذي في كتاب الله القصاص دون المال فلا جائز إثبات المال مع القصاص .

ومن جهة أخرى أنه إذا لم يجب القصاص بنفس القتل فغير جائز إيجابه مع إعطاء المال ؛ لأن المال حينئذ يصير بدلا من النفس ، وغير جائز قتل النفس بالمال ، ألا ترى أن من رضي أن يقتل ، ويعطى مالا يكون لوارثه لم يصح ذلك ، ولم يجز أن يستحق النفس بالمال ؟ فبطل أن يكون القصاص موقوفا على إعطاء المال . وأما مذهب الحسن ، وقول عثمان البتي في أن المرأة إذا كانت القاتلة قتلت ، وأخذ من مالها نصف الدية ، فقول يرده ظاهر الآي الموجبة للقصاص ، ويوجب زيادة حكم غير مذكور فيها .

وقد روى قتادة عن أنس : أن يهوديا قتل جارية ، وعليها أوضاح لها ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقتله بها .

وروى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل يقتل بالمرأة . وأيضا قد ثبت عن عمر بن الخطاب قتل جماعة رجال بالمرأة الواحدة من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائه مع استفاضة ذلك ، وشهرته عنه ، ومثله يكون إجماعا .

ومما يدل على قتل الرجل بها من غير بدل مال ، ما قدمنا من سقوط اعتبار ، [ ص: 173 ] المساواة بين الصحيحة ، والسقيمة ، وقتل العاقل بالمجنون ، والرجل بالصبي ، وهذا يدل على سقوط اعتبار المساواة في النفوس ، وأما دون النفس فإن اعتبار المساواة ، واجب فيه ، والدليل عليه اتفاق الجميع على امتناع أخذ اليد الصحيحة بالشلاء .

وكذلك لم يوجب أصحابنا القصاص بين الرجال ، والنساء فيما دون النفس ، وكذلك بين العبيد ، والأحرار ؛ لأن ما دون النفس من أعضائها غير متساوية .

فإن قال قائل : هلا قطعت يد العبد ، ويد المرأة بيد الرجل كما قطعت اليد الشلاء بالصحيحة قيل له : إنما سقط القصاص في هذا الموضع لاختلاف أحكامها لا من جهة النقص ، فصار كاليسرى لا تؤخذ باليمنى ، وأوجب أصحابنا القصاص بين النساء فيما دون النفس لتساوي أعضائهما من غير اختلاف في أحكامهما ، ولم يوجبوا القصاص فيما بين العبيد فيما دون النفس ؛ لأن تساويهما إنما يعلم من طريق التقويم ، وغالب الظن .

كما لا تقطع اليد من نصف الساعد ؛ لأن الوصول إلى علمه من طريق الاجتهاد . وعندهم أن أعضاء العبد حكمها حكم الأموال في جميع الوجوه ، فلا يلزم العاقلة منها شيء ، وإنما يلزم الجاني في ماله ، وليس كذلك النفس ؛ لأنها تلزم العاقلة في الخطأ ، وتجب فيها الكفارة ففارق الجنايات على الأموال ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية