صفحة جزء
فصل قال أبو بكر : واتفق أهل العلم أن الولد قد ينفى من الزوج باللعان ، وقد ذكرنا حديث ابن عمر وابن عباس في إلحاق الولد بالأم وقطع نسبه من الأب باللعان نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وحكي عن بعض من شذ أنه للزوج ولا ينتفي نسبه باللعان ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش والذي قال : ( الولد للفراش ) هو الذي حكم بقطع النسب من الزوج باللعان ، وليست الأخبار المروية في ذلك بدون ما روي أن الولد للفراش ، فثبت أن معنى قوله : ( الولد للفراش ) أنه لم ينتف باللعان .

وأيضا فلما بطل ما كان أهل الجاهلية عليه من استلحاق النسب بالزنا ، كما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا عنبسة بن خالد قال : حدثني يونس بن يزيد قال : قال محمد بن مسلم بن شهاب : أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها ؛ ونكاح آخر : كان الرجل يقول لامرأته : ( إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ) ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع ؛ ونكاح آخر : يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، فتقول لهم : ( قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان ) فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها

ونكاح [ ص: 159 ] رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها ، وهن البغايا كن ينصبن رايات على أبوابهن يكن علما ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتقطه ودعاه ابنه لا يمتنع من ذلك ، فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم . فمعنى قوله عليه السلام : الولد للفراش أن الأنساب قد كانت تلحق بالنطف في الجاهلية بغير فراش ، فألحقها النبي صلى الله عليه وسلم بالفراش ؛ وكذلك ما روي في قصة زمعة حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر فلم يلحقه بالزاني ، وقال : هو للفراش ، إخبارا منه أنه لا ولد للزاني ورده إلى عبد ؛ إذ كان ابن أمة أبيه ، ثم قال لسودة : ( احتجبي منه ) إذ كان سببها بالمدعى له ؛ لأنه في ظاهره من ماء أخي سعد وهذا يدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ، ولو كان قضى بالنسب لما أمرها بالاحتجاب بل كان أمرها بصلته ونهاها عن الاحتجاب عنه كما نهى عائشة عن الاحتجاب عن عمها من الرضاعة وهو أفلح أخو أبي القعيس .

ويدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ما رواه سفيان الثوري وجرير عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال : كانت لزمعة جارية تبطنها وكانت تظن برجل آخر ، فمات زمعة وهي حبلى ، فولدت غلاما كان يشبه الرجل الذي يظن بها ، فذكرته سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما الميراث له وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس لك بأخ فصرح في هذا الخبر بنفي نسبه من زمعة وإعطاء الميراث بإقرار عبد أنه أخوه . وقد روي هذا الحديث على غير هذا الوجه ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا ابن منصور ومسدد بن مسرهد قالا : حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة ، فقال سعد : أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابنه ، وقال عبد بن زمعة : أخي ابن أمة أبي ولد على فراش أبي ؛ فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبها بينا بعتبة فقال : الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة زاد مسدد : فقال : هو أخوك يا عبد .

قال أبو بكر الصحيح ما رواه سعيد بن منصور ، والزيادة التي زادها مسدد ما نعلم أحدا وافقه عليها ، وقد روي في بعض الألفاظ أنه قال : هو لك يا عبد ، ولا يدل ذلك على أنه أثبت النسب ؛ لأنه جائز أن يريد به إثبات اليد له ؛ إذ كان من يستحق يدا في شيء جاز أن يضاف إليه فيقال هو له ، وقد قال عبد الله بن رواحة [ ص: 160 ] لليهود حين خرص عليهم تمر خيبر : ( إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي ) ولم يرد به الملك ؛ ومعلوم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله : ( هو لك يا عبد ) إثبات الملك .

فادعى خصمنا أنه أراد إثبات النسب ، وذلك لا يوجب إضافته إليه في الحقيقة على هذا الوجه ؛ لأن قوله : ( هو لك ) إضافة الملك والأخ ليس بملك ، فإذ لم يرد به الحقيقة فليس حمله على إثبات النسب بأولى من حمله على إثبات اليد ويحتمل لو صحت الرواية أنه قال : ( هو أخوك ) يريد به أخوة الدين وأنه ليس بعبد لإقراره بأنه حر ، ويحتمل أن يكون أصل الحديث ما ذكر بعض الرواة أنه قال : ( هو لك ) وظن الراوي أن معناه أنه أخوه في النسب ، فحمله على المعنى عنده في خبر سفيان وجرير الذي يرويه عبد الله بن الزبير أنه قال : ( ليس لك بأخ ) وهذا لا احتمال فيه ، فوجب حمل خبر الزهري الذي روينا على الوجوه التي ذكرنا . قال أبو بكر : وقوله : الولد للفراش قد اقتضى معنيين :

أحدهما : إثبات النسب لصاحب الفراش ، والثاني : أن من لا فراش له فلا نسب له ؛ لأن قوله : ( الولد ) اسم للجنس ، وكذلك قوله : ( الفراش ) للجنس ، لدخول الألف واللام عليه ، فلم يبق ولد إلا وهو مراد بهذا الخبر ، فكأنه قال : لا ولد إلا للفراش .

وفيما حكم الله تعالى به من آية اللعان دلالة على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما ؛ لأنهما لو كانا كفرا لوجب أن يكون أحد الزوجين مرتدا ؛ لأنه إن كان الزوج كاذبا في قذفها فواجب أن يكون كافرا ، وإن كان صادقا فواجب أن تكون المرأة كافرة بزناها ، وكان يجب أن تبين منه امرأته قبل اللعان ، فلما حكم الله تعالى فيهما باللعان ولم يحكم ببينونتها منه قبل اللعان ثبت أن الزنا والقذف ليسا بكفر ودل على بطلان مذهب الخوارج في قولهم إن ذلك كفر . وتدل الآية أيضا على أن القاذف مستحق للعن من الله تعالى إذا كان في قذفه كاذبا ، وأن الزنا يستحق به الغضب من الله لولا ذلك لما جاز أن يأمرهما الله بذلك ؛ إذ غير جائز أن يؤمرا بأن يدعوا على أنفسهما بما لا يستحقانه ، ألا ترى أنه لا يجوز أن يدعو على نفسه بأن يظلمه الله ويعاقبه بما لا يستحقه ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية