صفحة جزء
وقوله تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث روي عن ابن عباس أن امرأة أيوب قال لها إبليس إن شفيته تقولين لي أنت شفيته فأخبرت بذلك أيوب فقال " إن شفاني الله ضربتك مائة سوط فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة . قال عطاء وهي للناس عامة .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فأخذ عودا فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فضرب به امرأته وذلك أن امرأته أرادها الشيطان على بعض الأمر فقال لها : قولي لزوجك يقول كذا وكذا فقالت له قل كذا وكذا فحلف حينئذ أن يضربها فضربها تحلة ليمينه وتخفيفا على امرأته .

قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن من حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه ضربة واحدة أنه يبر في يمينه إذا أصاب جميعها ؛ لقوله تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث والضغث هو ملء الكف من الخشب أو السياط أو الشماريخ ونحو ذلك فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك فقد بر في يمينه ؛ لقوله ولا تحنث

وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد " إذا ضربه ضربة واحدة بعد أن يصيبه كل واحدة منه فقد بر في يمينه " وقال مالك والليث لا يبر وهذا القول خلاف الكتاب لأن الله تعالى قد أخبر أن فاعل ذلك لا يحنث ، وقد روي عن مجاهد أنه قال هي لأيوب خاصة وقال عطاء للناس عامة .

قال أبو بكر دلالة الآية ظاهرة على صحة القول الأول من وجهين أحدهما : أن فاعل ذلك يسمى ضاربا لما شرط من العدد ، وذلك يقتضي البر في يمينه . والثاني أنه لا يحنث ؛ لقوله ولا تحنث وزعم بعض من يحتج لمذهب مالك أن ذلك لأيوب خاصة ؛ لأنه قال فاضرب به ولا تحنث [ ص: 259 ] فلما أسقط عنه الحنث كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة فأداها أو بمنزلة من لم يحلف على شيء وهذا حجاج ظاهر السقوط لا يحتج بمثله من يعقل ذلك ؛ لتناقضه واستحالته ومخالفته لظاهر الكتاب .

وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه إذا فعل ذلك لم يحنث واليمين تتضمن شيئين حنثا أو برا فإذا أخبر الله أنه لا يحنث فقد أخبر بوجود البر ؛ إذ ليس بينهما واسطة فتناقضه واستحالته من جهة أن قوله هذا يوجب أن كل من بر في يمينه بأن يفعل المحلوف عليه كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة على قضيته لسقوط الحنث ، ولو كان لأيوب خاصة وكان عبادة تعبد بها دون غيره كان لله أن يسقط عنه الحنث ولا يلزمه شيئا ، وإن لم يضربها بالضغث فلا معنى على قوله لضربها بالضغث ؛ إذ لم يحصل به بر في اليمين .

وزعم هذا القائل أن لله تعالى أن يتعبد بما شاء في الأوقات وفيما تعبدنا به ضرب الزاني قال : ولو ضربه ضربة واحدة بشماريخ لم يكن حدا قال أبو بكر : أما ضرب الزاني بشماريخ فلا يجوز إذا كان صحيحا سليما ، وقد يجوز إذا كان عليلا يخاف عليه ؛ لأنه لو أفرد كل ضربة لم يجز إذا كان صحيحا ، ولو جمع أسواطا فضربه بها وأصابه كل واحد منها أعيد عليه ما وقع عليه من الأسواط ، وإن كانت مجتمعة فلا فرق بين حال الجمع والتفريق .

وأما في المرض فجائز أن يقتصر من الضرب على شماريخ أو درة أو نحو ذلك ، فيجوز أن يجمعه أيضا فيضربه به ضربة .

وقد روي في ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف ، أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار : أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدة على عظم ، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها ، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال : استفتوا لي النبي صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : ما رأينا أحدا به من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له شماريخ مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة .

ورواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد ، وقال فيه : فخذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة ، ففعلوا وهو سعيد بن سعد بن عبادة ، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأبو أمامة بن سهل بن حنيف هذا ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 260 ] فصل . وفي هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا ، لولا ذلك لم يكن أيوب ليحلف عليه ويضربها ، ولما أمره الله تعالى بضربها بعد حلفه .

والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزا بقوله : واللاتي تخافون نشوزهن إلى قوله : واضربوهن وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديبا لغير نشوز .

وقوله تعالى : الرجال قوامون على النساء فما روي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب ؛ لأنه روي أن رجلا لطم امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أهلها القصاص ، فأنزل الله : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم وفي الآية دليل على أن للرجل أن يحلف ولا يستثني ؛ لأن أيوب حلف ولم يستثن .

ونظيره من سنة النبي صلى الله عليه وسلم قوله في قصة الأشعريين حين استحملوه فقال : " والله لا أحملكم " ولم يستثن ، ثم حملهم وقال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه .

وفيها دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ثم فعل المحلوف عليه أن عليه الكفارة ؛ لأنه لو لم تجب كفارة لترك أيوب ما حلف عليه ، ولم يحتج إلى أن يضربها بالضغث وهو خلاف قول من قال : " لا كفارة عليه إذا فعل ما هو خير " .

وقد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته " . وفيها دليل على أن التعزير يجاوز به الحد ؛ لأن في الخبر أنه حلف أن يضربها مائة فأمره الله تعالى بالوفاء به .

إلا أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين " . وفيها دليل على أن اليمين إذا كانت مطلقة فهي على المهلة وليست على الفور ؛ لأنه معلوم أن أيوب لم يضرب امرأته في فور صحته ، ويدل على أن من حلف على ضرب عبده أنه لا يبر إلا أن يضربه بيده ، لقوله : وخذ بيدك ضغثا إلا أن أصحابنا قالوا فيمن لا يتولى الضرب بيده : " إن أمر غيره بضربه لا يحنث للعرف " .

وفيها دليل على أن الاستثناء لا يصح إلا أن يكون متصلا باليمين ؛ لأنه لو صح الاستثناء متراخيا عنها لأمر بالاستثناء ولم يؤمر بالضرب .

وفيها دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره ؛ لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث ؛ ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر . آخر سورة ص .

[ ص: 261 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية