صفحة جزء
باب الاعتكاف هل يجوز بغير صوم قال الله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وقد بينا أن الاعتكاف اسم شرعي ، وما كان هذا حكمه من الأسماء فهو بمنزلة المجمل الذي يفتقر إلى البيان وقد اختلف السلف في ذلك ، فروى عطاء عن ابن عمر عن ابن عباس وعائشة قالوا : " المعتكف عليه الصوم " ، وقال سعيد بن المسيب عن عائشة : " من سنة المعتكف أن يصوم " .

وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال : " لا اعتكاف إلا بصوم " وهو قول الشعبي وإبراهيم ومجاهد ، وقال آخرون : " يصح بغير صوم " ؛ روى الحكم عن علي وعبد الله ، وقتادة عن الحسن وسعيد ، وأبو معشر عن إبراهيم قالوا : " إن شاء صام وإن شاء لم يصم " وروى طاوس عن ابن عباس مثله .

واختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح : " لا اعتكاف إلا بصوم " وقال الليث بن سعد : " الاعتكاف في رمضان ، والجوار في غير رمضان ، ومن جاور فعليه ما على المعتكف من الصيام وغيره " ، وقال الشافعي : " يجوز الاعتكاف بغير صوم " قال أبو بكر : لما كان الاعتكاف اسما مجملا لما بينا كان مفتقرا إلى البيان ، فكل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه فهو وارد مورد البيان ، فيجب أن يكون على الوجوب ؛ لأن فعله إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب إلا ما قام دليله ، فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا اعتكاف إلا بصوم وجب أن يكون الصوم من شروطه التي لا يصح إلا به ، كفعله في الصلاة لأعداد الركعات [ ص: 306 ] والقيام والركوع والسجود لما كان على وجه البيان كان على الوجوب .

ومن جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الله بن بديل بن ورقاء الليثي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر : أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم .

وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح القرشي قال : حدثنا عمرو بن محمد عن عبد الله بن بديل بإسناده ، نحوه ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب ، فثبت بذلك أنه من شروط الاعتكاف ، ويدل عليه أيضا قول عائشة رضي الله عنها : " من سنة المعتكف أن يصوم " ، ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على لزومه بالنذر .

فلولا ما يتضمنه من الصوم لما لزم بالنذر ؛ لأن ما ليس له أصل في الوجوب لا يلزم بالنذر ولا يصير واجبا ، كما أن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة وإن تقرب به ، ويدل عليه أن الاعتكاف لبث في مكان فأشبه الوقوف بعرفة ، والكون بمنى لما كان لبثا في مكان لم يصر قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه هو في نفسه قربة ، فالوقوف بعرفة الإحرام والكون بمنى الرمي .

فإن قيل : لو كان من شرطه الصوم لما صح بالليل لعدم الصوم فيه ، قيل له : قد اتفقوا على أن من شرطه اللبث في المسجد ثم لا يخرجه من الاعتكاف خروجه لحاجة الإنسان وللجمعة ، ولم ينف ذلك كون اللبث في المسجد شرطا فيه ، كذلك من شرطه الصوم وصحته بالليل مع عدم الصوم غير مانع أن يكون من شرطه ، وكذلك اللبث بمنى قربة لأجل الرمي ، ثم يكون اللبث بالليل بها قربة لرمي يفعله في غد ، كذلك الاعتكاف بالليل صحيح بصوم يستقبله في غد ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية